كيف ينظر علم الاجتماع الى كوب من القهوة ؟
يمكننا أن نشير في أول الأمر إلى أن القهوة ليست مجرد شراب منعش أو منبّه ، فبحسب عالم الاجتماع أنتوني غيدنز أن للقهوة قيمة رمزية باعتبارها جزءاً من أنشطتنا الاجتماعية اليومية والطقوس التي تصاحب احتساء القهوة أهم من استهلاكنا لها .
لذلك سنتابع معاً ” أحمد ” الذي يعشق القهوة كونه يمثل نسق المايكرو أي الفرد الواحد، فالقهوة بالنسبة له خطوة رئيسيه أولى لبدء نشاطه اليومي ، فأول كوب قهوة يتناوله لوحده كسلوك روتيني يومي في الصباح الباكر ، ثم يتلو ذلك كوب من القهوة مع زملائه و الذي يمثل تفاعل اجتماعيا خصبا للدراسة الاجتماعية .
و يسعى أحمد كما يسعى كثير من الناس الى الحصول على تلك الجرعات المنبه التي تخفف عنهم وطأة العمل او الجلوس خلف مكتب علية كومة من أوراق الشغل أو ساعات المذاكرة او حتى الاستمتاع بالحديث الى الأخرين لكن يبدو أن صاحبنا أحمد في أحد الأيام لم يتسنى له أن يتناول قهوته المعتادة و في نهاية اليوم انتابه صداع شديد و أصبح مزاجه متعكر ، فلم يكن يعلم أن القهوة تسبب ما يعرف بالتعود و أنها تدخل ضمن المواد الإدمانيه كونها تحتوى على الكافيين الذي يحفز الدماغ ، و إن كان أكثر الناس لا يعتبرون من يتعاطى القهوة أنه من مدمني فئة العقاقير الا أنها كذلك ، و القهوة مثلها مثل الكحول في بعض المجتمعات قد يكون تعاطيها مقبولا من الناحية الاجتماعية وقد يكون لا ، ايضا بعض المجتمعات قد تتساهل في تعاطي الحشيش او حتى الكوكائين غير أنها تنظر بنفور إلى تعاطي القهوة أو الكحول أو كليهما ، و هذا ايضا من اهتمامات علماء الاجتماع أن يعرفوا الأسباب التي أدت الى هذه المفارقات .
و من جهة أخرى فأن صاحبنا أحمد الذي يتناول القهوة يدخل في مجموعات معقدة من العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية التي تمتد الى انحاء أخرى من العالم ، فالقهوة هي احد المنتجات التي تربط الناس في أغنى البلدان و أفقرها ، فهي تستهلك بكميات هائلة في البلدان الغنية و لكن انتاجها و زراعتها اساسا تتم في البلدان الفقيرة ، و تأتي القهوة في المرتبة الثانية بعد النفط باعتبارها السلعة الأكثر أهمية في التجارة العالمية حيث أنها تعتبر من المصادر الكبيرة بين الدول من ناحية التعاملات التجارية و التبادلات الخارجية ، لذلك فأن تناول أحمد للقهوة يدخل ضمن تلك التعقيدات من حيث الإنتاج و النقل و التوزيع الذي يتطلب التعامل و التبادل بين أُناس يبعدون آلاف الكيلومترات عن من يشربونها ، و تقع هذه المبادلات التجارية العالمية في صلب اهتمامات علم الاجتماع ، فحياة أحمد تتأثر بعوامل اجتماعية كثيرة منها التقدم في مجال الاتصالات في جميع أنحاء العالم .
و من جهة أخرى فإن قهوة أحمد السوداء او تلك التي أحيانا يتناولها مع الحليب و السكر ، تعتبر من مفردات التغذية في كثير من المجتمعات كالشاي و الموز و الأرز ، و بعض تلك المفردات الغذائية لم تكن ضمن قائمة التغذية في كثير من المجتمعات فعلى سبيل المثال فإن القهوة لم يبدأ شيوعها و انتشارها في الغرب إلا في أواخر القرن التاسع عشر حيث أن استهلاك القهوة بكميات ضخمه قد بدأ مع عمليات التوسع الغربي الاستعماري قبل ما يقرب من قرن و نصف القرن و يأتي معظم ما يتعاطاه الغربيون اليوم من القهوة من مناطق في أمريكا الجنوبية و أفريقيا و كانت تلك المناطق من المستعمرات الأوربية ، و هي بالتالي ليست بهذا المعني جزءا طبيعيا من الغذاء الغربي ، كما أن الإرث الاستعماري قد ترك بمجملة آثاراً هائلة على تطور تجارة القهوة الدولية ، بينما كانت بداية القهوة في الشرق الأوسط قبل ذلك بكثير وتحديدا في جزيرة العرب بدأت في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي وذلك عن طريق التجارة ولم يكن انتشارها دون مقاومة في بعض المجتمعات في الشرق، فقد ذكر السباعي في كتابة اوراق مطوية حين شاع شرب القهوة في مكة المكرمة بعد أن انتقل إليها من اليمن ، أن القهوة قد حاربها علماء مكة حرباً شديداً وأفتى بعضهم بتحريمها وقال إنها خمرة مسكرة فصدر الأمر بجلد بائعها وشاربها وطابخها وشاريها فكان الناس يتعاطونها في أقبية بعض البيوت فإِذا هاجمهم المكلفون سحبوهم بالعنف إلى ساحة عامة وضربوا رؤوسهم بأوانيهم وكانت من الفخار حتى تدميهم وربما قضى بعضهم من هول الضرب وربما اكتفوا عن ذلك بجلدهم بالسوط ثم ما لبثوا أن تهاونوا في شأنها فكثر شيوعها وزاد انتشارها حتى وصلت لصاحبنا أحمد بصيغة مغايرة عن تلك المقاومة الثقافية فهي بهذا دخلت في التكوين الثقافي عبر الزمن و انتقلت كثقافة من جيل إلى آخر و اصبحت القهوة اليوم في بعض المجتمعات العربية ذات قيمة رمزية اجتماعية مرتبطة بالكرم والضيافة والمؤانسة .
ومن جهة أخرى فإن احمد قد أفتتح مؤخرا مقهى مخصص للقهوة و قد اخذ الفكرة من الخارج أبان فترة ابتعاثه في الخارج و محاولا محاكاة ستاربكس او ما يعرف في علم الاجتماع بالشركات متعددة الجنسيات ، و هذا الافتتاح و الانتشار يعرف أحيانا بالتثاقف في علم الاجتماع ، و احتاج مقهى أحمد الى الآت ذات تكنلوجيا معقدة لصناعه القهوة و تلك الآت المستوردة احتاجت الى مصانع و عمال و تقنية عالية و بالتالي دخلت القهوة من جهة أخرى في سلسلة التنمية لكثير من المجتمعات .
ويبدو ان قهوة أحمد تقف في مقدمة المساجلات الراهنة حول العولمة و التجارة الدولية و الشركات المتعددة الجنسيات و تقويض البيئة و أصبحت قهوة صاحبنا أحمد تمثل أحد خيارات أسلوب الحياة و اصبح لها رمزية اجتماعية و عالمية ترتبط حتى بالمجال السياسي و التجارة العالمية و تدخل في شبكة معقدة في الثقافة المادية و الثقافة المعنوية في كثر من التجمعات السكانية حول العالم.