التكنولوجيا طوق النجاة لمواجهة تدهور الأراضي … محور نقاش على أجندة أيام المحاور الخاصّة في “كوب 16” الرياض
خصص مؤتمر الأطراف السادس عشر لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر “كوب 16” الرياض، ضمن أيام المحاور الخاصة التي تستضيفها المنطقتان الخضراء والزرقاء يومًا للعلوم والتكنولوجيا والابتكار، وذلك اعترافًا بدور التكنولوجيا والعلوم في جهود الحفاظ على الأراضي ومنع تدهورها والتصدي لتحديات الجفاف والتصحر، حيث سيشتمل على 10 فعاليات تعرض الحلول والابتكارات المتطورة.
وأصبحت التكنولوجيا في عالمٍ يتزايد فيه التحدي للحفاظ على الموارد الطبيعية، ومطلبًا حيويًا لمواجهة تدهور الأراضي، الذي يهدد الأمن الغذائي ويضعف التنوع البيولوجي.
وتُعدّ التربة من أهم موارد الحياة على الأرض، ولكنها تتعرض لضغوط هائلة نتيجة الممارسات الزراعية غير المستدامة، والتغيرات المناخية التي تؤدي إلى فقدان خصوبتها وتدهورها السريع، ومن هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى تدخلات تقنية حديثة، حتى تتمكن البشرية من حماية هذه الموارد وضمان استدامتها للأجيال القادمة.
وقد أثبتت التجارب العملية التي اعتمدتها دول كثيرة حول العالم إمكانية توظيف التكنولوجيا الحديثة في الجهود الرامية للتغلب على تدهور الأراضي، بما في ذلك رصد صحة التربة وتحليل بياناتها بدقة غير مسبوقة، كوسيلة لتحسين الإدارة البيئية للأراضي، وتقديم حلول مبتكرة للحد من التدهور.
ومن بين هذه التقنيات التي باتت تستخدم على نطاق واسع الاستشعار عن بعد، والأقمار الصناعية، والطائرات بدون طيار، حيث يمكنها أن تقدم للباحثين والخبراء الزراعيين وأصحاب المشاريع الريادية، وحتى كبار المزارعين بيانات دقيقة عن خصائص التربة، مثل الرطوبة والكثافة ودرجة الخصوبة، ليس هذا فحسب، بل يمكن توظيف هذه البيانات في الكشف المبكر عن المناطق المعرضة للتدهور، وتبرز أهمية التكنولوجيا الحيوية في تطوير البذور المقاومة للتغيرات المناخية، والكائنات الحية الدقيقة التي تعزز جودة التربة، فضلًا عن التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي لتحليل الأنماط وتقديم حلول ذكية ومستدامة.
وتُعد التكنولوجيا الحديثة حافزًا أساسيًا للحلول المستدامة في مجال حماية التربة والحد من تدهور الأراضي، فمن خلال تقنيات الاستشعار عن بُعد، أصبحت الحكومات والمؤسسات الزراعية قادرة على مراقبة صحة التربة بشكل أدق، فعلى سبيل المثال، تُظهر تقارير من وكالة الفضاء الأوروبية أن استخدام الأقمار الصناعية لرصد الأراضي أسهم في تقليل نسبة التدهور بنسبة تصل إلى 15% في المناطق الزراعية المتدهورة في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، ومن خلال جمع هذه البيانات وتحليلها، يمكن الكشف المبكر عن المناطق المعرضة للتدهور، ما يتيح إطلاق استجابات سريعة للحد من التأثيرات السلبية، وهو أمر بالغ الأهمية، خصوصًا أن تدهور الأراضي يتسبب بخسائر اقتصادية تصل إلى 490 مليار دولار سنويًا وفقًا لتقارير الأمم المتحدة.
ولتقييم صحة التربة وفهم التغيرات التي تؤدي إلى تدهورها، يمكن أيضًا الاستعانة بالتكنولوجيا الرقمية وتحليل البيانات من الأدوات الفعّالة، وبالاعتماد على تحليل البيانات الضخمة التي تجمع من مصادر متعددة، مثل محطات الأرصاد الجوية وأجهزة الاستشعار في الحقول، يمكن تقديم صورة شاملة ودقيقة عن التغيرات المناخية والزراعية التي تؤثر على خصوبة التربة.
وقد يسهم استخدام الذكاء الاصطناعي في استكشاف الأنماط المؤثرة على التربة في تحسين إنتاجية المحاصيل بنسبة تصل إلى 25%، وذلك من خلال تحديد الأسباب الكامنة وراء تدهور التربة وتقديم حلول ذكية، مثل تحسين نظام الري أو تعديل التسميد، وفقًا لتقارير صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وبفضل هذه التقنيات، أصبح من الممكن اتخاذ قرارات استباقية أدقّ لحماية التربة واستعادة خصوبتها، وبالتالي تعزيز الأمن الغذائي العالمي.
ويمكن للمزارعين والحكومات اتخاذ قرارات مستدامة ومبنية على أسس علمية، بالاعتماد على أدوات تحليل البيانات المتقدمة في تحسين القدرة على التنبؤ بالمخاطر الزراعية الناتجة عن تدهور الأراضي، والتنبؤ بتأثيرات التدهور على إنتاجية الأراضي.
وفي المؤتمر التاسع والعشرين للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (كوب 29) الذي تستضيفه العاصمة الأذرية باكو خلال الفترة من 11 إلى 22 نوفمبر الجاري، تم التركيز على أهمية توظيف الذكاء الاصطناعي واستخدام النماذج اللغوية الكبيرة لمساعدة المزارعين في مختلف الأغراض الزراعية، لا سيما وأن هذه التقنيات توفّر أدوات لا تقدر بثمن لدعم القرار للباحثين الزراعيين والعاملين المتخصصين في المجالات التنموية والإرشاد، ومساعدتهم على مواجهة التهديدات المتصاعدة الناجمة عن تحديات التغير المناخ.
ويمكن تعريف الزراعة الدقيقة على أنها منهجية حديثة في إدارة الزراعة تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة لتوفير حلول مخصصة ودقيقة لتلبية احتياجات التربة والمحاصيل، لزيادة الكفاءة الإنتاجية، وتقليل الهدر في الموارد الزراعية مثل المياه والأسمدة، من أجل الاستدامة البيئية والاقتصادية.
وتعتمد الزراعة الدقيقة على أدوات متطورة، مثل نظام تحديد المواقع العالمي والطائرات المسيّرة وأجهزة الاستشعار الذكية التي تجمع بيانات دقيقة حول حالة التربة والمحاصيل، لتحليل احتياجات المساحات الزراعية على مستوى الحقول والمزارع، وقياس مستويات الرطوبة والمغذيات في التربة.
وبناءً على تقارير صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة، يمكن أن تسهم الزراعة الدقيقة في تحسين الإنتاجية بنسبة تصل إلى 30%، وتقليل استهلاك المياه والأسمدة بنسبة تتراوح بين 15 – 20%، لتكون بذلك أحد أكثر الابتكارات تأثيرًا في تحسين كفاءة استخدام الأراضي الزراعية وتقليل الأثر البيئي.
وأشارت دراسة صادرة عن المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية إلى أن استخدام الزراعة الدقيقة يمكن أن يقلل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 20%، بينما يخفض استخدام الأسمدة بنسبة 15% دون التأثير على إنتاجية المحاصيل.
وتسهم الزراعة الدقيقة في تقليل الانبعاثات الناتجة عن الممارسات الزراعية التقليدية، مما يدعم استدامة الأراضي على المدى الطويل ويحافظ على قدرتها الإنتاجية للأجيال القادمة.
وباتت التكنولوجيا الحيوية تلعب دورًا متزايدًا في تحسين صحة التربة وتعزيز قدرتها على مقاومة التدهور الناتج عن التغيرات المناخية والجفاف، وتعتمد هذه التكنولوجيا على تطوير بذور معدلة وراثيًا تمتلك قدرة فائقة على تحمل الظروف الصعبة، مثل الحرارة المرتفعة ونقص المياه، ما يؤدي إلى تحسين الإنتاجية الزراعية في المناطق المتضررة، حيث أظهرت تقارير صادرة عن المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية أن استخدام البذور المعدلة وراثيًا يمكن أن يزيد الإنتاجية بنسبة تصل إلى 40% في الأراضي القاحلة.
وتُستخدم الكائنات الحية الدقيقة المعدلة وراثيًا لتحسين جودة التربة من خلال تعزيز خصوبتها، وزيادة قدرتها على الاحتفاظ بالمغذيات، ومع أن مثل هذه التقنيات تُسهم في استعادة إنتاجية الأراضي المتدهورة، وبالتالي تعزيز الأمن الغذائي في المناطق التي تعاني من التصحر، إلا أنه يجب أخذ الآثار البيئية والاجتماعية المحتملة لاستخدام التكنولوجيا الحيوية بعين الاعتبار، بما في ذلك تأثيرها على التنوع البيولوجي وسلامة النظام البيئي.
وفي أفريقيا، حيث تواجه الأراضي الزراعية تحديات كبيرة بسبب الجفاف المتكرر، تم إطلاق مشروع “الذرة الموفرة للمياه لأفريقيا” لتطوير بذور ذرة معدلة وراثيًا تتصف بقدرتها على تحمل الجفاف ومقاومة الآفات، وأثبتت التجارب الميدانية أن هذه البذور ساعدت في تحسين الإنتاجية بنسبة تصل إلى 35% في ظروف الجفاف، مقارنة بالبذور التقليدية.
وتُعدّ التحديات التقنية أحد العوائق الرئيسية التي تقف في طريق تطبيق التكنولوجيا الحديثة لمكافحة تدهور الأراضي، ومن أبرز هذه التحديات نقص الأجهزة الدقيقة والبرمجيات المتقدمة التي تُستخدم لمراقبة الأراضي في بعض المناطق النائية أو النامية، حيث تفتقر هذه المناطق إلى البنية التحتية اللازمة لدعم هذه التقنيات، كما أن القيود الاقتصادية تمثل تحديًا آخر، إذ تُعد تقنيات المراقبة الحديثة مثل الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة مكلفة، وبالتالي يصعب تطبيقها في بعض الدول التي تعاني ضعف الموارد المالية.
وللتغلب على هذه العقبات، هناك حاجة ماسّة إلى تبنّي الحلول المبتكرة، مثل تكييف التقنيات ذات التكلفة الأقل أو استخدام الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتوفير الدعم المالي، بالإضافة إلى ضرورة دعم السياسات الحكومية في تطبيق هذه التقنيات من خلال توفير حوافز تشجيعية، ووضع سياسات واضحة تسهم في تعزيز استدامة الأراضي والحد من تدهورها.
وهنا تبرز الحاجة إلى الاستثمار في الأبحاث والتطوير باعتباره حجر الزاوية لتحسين صحة التربة ومكافحة تدهور الأراضي باستخدام التكنولوجيا الحديثة, ومن خلال تعزيز الأبحاث في هذا المجال، يمكن الوصول إلى حلول مبتكرة تُسهم في استعادة الأراضي المتدهورة وزيادة كفاءتها الإنتاجية بشكل مستدام، ويتطلب هذا الأمر الارتقاء بمستوى التعاون بين الجامعات، والمعاهد البحثية، والقطاع الخاص لضمان تطوير هذه التقنيات وتطبيقها بشكل فعّال.
ويجب أن تُركّز الجهود على توعية المزارعين وتدريبهم على استخدام هذه التقنيات الحديثة، خاصة مزارعي المناطق الريفية الذين غالبًا ما يفتقرون إلى المعرفة الكافية حول كيفية استخدام الأدوات والتقنيات الجديدة، لذلك، فإن توفير برامج تدريبية تركز على تعليم تقنيات الزراعة المستدامة واستخدام الأدوات التكنولوجية الحديثة يُعد أمرًا ضروريًا، ويجب أن تشمل هذه البرامج ورش العمل الميدانية والدورات التدريبية التي يقدمها الخبراء، فضلًا عن توفير الدعم الفني المستمر لضمان تطبيق هذه التقنيات بنجاح.
وبات جليًا خلال العقود القليلة الماضية أن التكنولوجيا ليست مجرد أداة لتحسين الإنتاجية الزراعية ومكافحة تدهور الأراضي، بل يمكن اتخاذها شريكًا أساسيًا في جهود الحفاظ على الموارد الطبيعية وضمان استدامتها للأجيال القادمة.
وتؤكد التجارب والمشاريع الميدانية أنه يتعين على البشرية التسلّح بالتقدم التكنولوجي المستمر حتى تتمكن من التوصل إلى حلول مبتكرة للمشاكل البيئية المعقدة، ليس فقط لمواجهة التصحر وتدهور التربة، بل لإعادة التوازن للأنظمة البيئية التي تأثرت بشكل كبير من أنشطتنا المختلفة.
ورغم التحديات التي قد تواجه تطبيق هذه التقنيات، مثل القيود الاقتصادية أو نقص البنية التحتية، فإن الأمل يكمن في أن الدعم الحكومي، والتعاون بين القطاعين العام والخاص، والاستثمار في الأبحاث والتطوير، ستؤدي مجتمعة إلى تجاوز هذه العقبات، وعلاوة على ذلك، سنتمكن من تعظيم الاستفادة من هذه التقنيات في تحقيق التنمية المستدامة، وتحديدًا من خلال نشر الوعي وتدريب المزارعين في المناطق الريفية.
ويمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة فاعلة في الحفاظ على التربة والموارد الطبيعية، ويجب على الدول، وخاصة المتقدمة والغنية منها، الاعتراف بحقيقة مهمة، وهي أن الاستثمار في هذه التكنولوجيا ليس نوعًا من البذخ التكنولوجي، بل إنه سيعود بفوائد جمة، في الوقت الذي تضمن فيه الأجيال القادمة بيئة صحية ومستدامة، يمكنهم فيها تحقيق الازدهار والاستمتاع بمستقبل أفضل بعد التخلص من التحديات الراهنة.