حين تتكلم الجثث ..

جود محمد الشمري

كيف يفضح الطب الشرعي نوايا القاتل؟

في عالم الجريمة، لا تملك الضحية صوتًا تدافع به عن نفسها، لكن آثار الدم، واتجاه الطعنات، وعمق الجروح، قد تكون أبلغ من أي شهادة.

هنا، يتدخل الطب الشرعي ليقرأ ما صمتت عنه الجثة، ويفكك بصمتها الأخير. فالهدف من التشريح لا يقتصر على معرفة سبب الوفاة فحسب، بل يتعداه إلى ما هو أعمق من ذلك .

في هذه المقالة، نستكشف كيف يسهم الطب الشرعي، من خلال تحليل أنماط الإصابات وتفاصيلها الدقيقة، في الكشف عن النية الجنائية للجاني، وربط الأدلة الطبية بالتوصيف القانوني للجريمة. إنه لقاء بين مشرط الجراح ونص القانون، حيث يصبح الجسد دليلاً، والصمت شهادة.

أولًا: النية الجنائية في القانون حجر الأساس في توصيف الجريمة في القانون الجنائي، لا يكفي تحقق النتيجة الإجرامية لإثبات الجريمة، بل لا بد من توفر الركن المعنوي أو ما يعرف ”بالنية الجنائية”. هذه النية تتفاوت من حالة إلى أخرى، وقد تكون:

– عمدًا: نية مباشرة لإحداث النتيجة (مثل القتل المتعمد).

– شبه عمد: إحداث ضرر يؤدي إلى الوفاة دون نية مباشرة.

– خطأ: تصرف غير مقصود أدى إلى نتيجة جنائية.

ومع غياب الشهود أو تضارب الأقوال، يكون إثبات هذه النية تحديًا حقيقيًا أمام المحققين والقضاة… وهنا يظهر دور الطب الشرعي.

ثانيًا: كيف يكشف الطب الشرعي النية الجنائية؟

الطبيب الشرعي لا يصف فقط حالة الجثة، بل يقرأ السيناريو:

1- عدد الطعنات أو الإصابات:

– طعنة واحدة في مكان غير قاتل قد تشير إلى دفاع أو تصرف غير متعمد.

– طعنات متكررة، خاصة في مناطق قاتلة (الصدر، الرقبة)، تدل على نية واضحة للقتل.

2- اتجاه الجروح:

– طعنة من الأعلى إلى الأسفل قد تشير إلى الهجوم المفاجئ.

– جروح سطحية على اليدين قد تدل على مقاومة الضحية، ما يعزز فرضية الاعتداء المتعمد.

3- أداة الجريمة:

استخدام أداة قاتلة (مثل سكين طويلة أو مسدس) بدلًا من أداة عشوائية يدل على نية مسبقة.

وجود آثار على الجسم تشير إلى التقييد أو العنف المفرط.

4- زمن الإصابة والموت:

– وجود إصابات قديمة أو محاولات تعذيب قبل القتل تغير توصيف الجريمة من قتل بسيط إلى قتل مع سبق الإصرار أو تعذيب وقتل.

ثالثًا: التكامل بين تقرير الطب الشرعي والتحقيق القانوني

يعتمد المحققون على التقرير الطبي في:

كييف التهمة: هل هي قتل عمد؟ أم ضرب أفضى إلى الموت؟.

تحليل سلوك الجاني: هل تصرف بعنف مفرط؟ هل تصرفه منطقي مع ما يدعيه؟.

مقارنة أقواله مع الواقع: مثلًا، إذا قال الجاني “طعنته مرة واحدة فقط”، والتقرير يثبت وجود 5 طعنات عميقة… هذا تناقض جوهري.

رابعًا: من تجربة تدريبي بالطب الشرعي، كيف تنطق الأدلة؟

من واقع تدريبي في مركز الطب الشرعي، كثيرًا ما ألاحظ أن تفاصيل الإصابة تغير مجرى القضية تمامًا.

على سبيل المثال، وردت حالة لذكر ثلاثيني مصاب بطعنة واحدة في الصدر.

ظن الجميع في البداية أنها حالة انتحار، استنادًا إلى أدوات الإبلاغ الأولي، لكن اتجاه الطعنة وزاويتها أظهرا استحالة حدوثها ذاتيًا، مما رجح فرضية القتل.

وبعد الانتهاء من عملية التشريح، أصدر الطب الشرعي تقريره مؤكدًا صحة الفرضية، وأن الوفاة لم تكن نتيجة انتحار.

عندما يصبح الجسد شاهدًا والقانون عدسة

ليس كل من أمسك سكينًا قاتلًا، لكن كل جرحٍ يروي شيئًا. في لقاء القانون مع الطب الشرعي، تتجاوز الأدلة حدود الكلمات، وتتكشف النوايا من تفاصيل الصمت. إن إدراك العلاقة العميقة بين النية الجنائية وتحليل الإصابات لا يعزز فقط عدالة الحكم فحسب، بل يكشف أيضًا الوجه الإنساني والعلمي للقضاء الجنائي في آنٍ معًا.