تنظيم الحرف اليدوية .. نواة الاقتصاد الإبداعي المستدام

ُربا حسين القحطاني
زخرت المملكة العربية السعودية بالعديد من الحرف والصناعات اليدوية مُنذ نشأتها بوصفها موروثاً حضارياً يتناقله الأجيال عبر الزمن، وتميزت عن سائر الدول بتنوع الحرف والصناعات نظرًا لما حباها الله من تنوع جغرافي ما بين البيئة الصحراوية، والساحلية، والزراعية، والجبلية.
وحتى يومنا هذا لم يتفق المجتمع الدولي على تعريف شامل مانع للصناعات والحرف اليدوية، إلا أن أغلبها تكاد تشترك في الخصائص العامة.
وقد وعرفها البعض بأنها تلك الصناعات التي يقوم بمزاولتها الحرفي معتمدا على مهاراته الفردية الذهنية واليدوية التي اكتسبها من تطور ممارسته للعمل الحرفي، وذلك باستخدام الخامات الأولية المتوفرة في البيئة المحلية أو الخامات الأولية المستوردة، بحيث يتم التعامل معها في الإنتاج بصورة يدوية أو باستخدام بعض العدد والأدوات البسيطة .
والصناعات اليدوية باعتبارها ترتكز في تشكيلها على الخامات الأولية المتوافرة في البيئات المحلية كما ذكرنا أنفاً، تتباين تبعاً لاختلاف البقعة الجغرافية، فالمصنوعات الخشبية اشتهرت بها المناطق الساحلية مثل مدينة جدة ومن أبرزها صناعة السفن والرواشن، بينما برزت المصنوعات الجلدية في المناطق الصحراوية مثل قرب الماء والفراء.
أما المصنوعات النسجية فقد تميزت بها واحة الأحساء، ومن أمثلتها العبي والمشالح، في حين اشتهرت جميع مناطق المملكة بالمصنوعات المعدنية، مثل الهاونات ودلال القهوة.
على الجانب الآخر تجاوزت بعض الحرف الاعتراف المحلي لتنال توثيقاً دولياً من قبل منظمة اليونيسكو كالقط العسيري في منطقة عسير وحياكة السدو في منطقة الباحة ما يعكس قيمة القطاع وأهميته ويجسد تميز الصناعة المحلية من جهة أخرى.
وعلى الرغم من الأهمية الكبرى التي يكتسحها قطاع الحرف والصناعات اليدوية في المملكة والجهود الحثيثة المبذولة في تنظيمه وتشمل إطلاق الاستراتيجية الوطنية لتنمية الحرف والصناعات التقليدية وبرنامج تنمية الحرف والصناعات اليدوية، وإصدار لائحة الترخيص البلدي لمزاولة المهن الحرة.
إلا أن غياب إطار تشريعي متخصص وطني كشف عن إشكالات بارزة منها: زيادة إنفاق مبالغ طائلة تقدر بالمليارات على وارادات الحرف اليدوية مما يفوت فرصة دخول أسواق تتجاوز قيمتها 300 مليار ريال سعودي سنويًا، إضافةً إلى تقليل فرص نمو النشاط السياحي، وإحجام الحرفيين عن العمل الحرفي خشيةَ انتهاك حقوق الملكية الفكرية لأعمالهم وغيرها من التحديات.
وقد سدت عديد من الدول مُنذ زمن الفراغ التشريعي بسن قوانين ولوائح تنظم وتدعم قطاع الحرف والصناعات اليدوية منها: دولة فلسطين عبر قانون الحرف والصناعات لسنة 1953م، وسلطنة عمان عبر اللائحة التنظيمية لدعم الصناعات الحرفية لسنة 2020م، وجمهورية صربسكا عبر قانون الحرف وريادة الأعمال.
وفي خضم التطورات المتسارعة والفرص الاستثمارية الضخمة سعت المملكة لمواكبة الحراك التشريعي العالمي حيث أقر مجلس الوزراء في يوم الثلاثاء الموافق 19/8/2025م اعتماد نظام الحرف والصناعات اليدوية، وجاء ذلك النظام بالتزامن مع تسمية العام الثقافي الحالي عام “الحرف اليدوية”.
ويعد القرار خطوة إستراتيجية تعكس جهود المملكة في دعم الحرفيين وخلق حلقة وصل بين عراقة الماضي وأصالة الحاضر والإسهام في استدامة القطاع بما ينعكس إيجاباً على المستهدفات الوطنية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وليس من المبالغة القول إن هذا النظام سيسفر عن فوائد جمّة وفرص نوعية ذات آثار اجتماعية واقتصادية، فعلى الجانب الاجتماعي يُتوقع أن يسهم النظام في عدة أمور لعل من أبرزها: حفظ التراث الثقافي وترسيخ الهوية الوطنية لدى الأجيال وتعزيز أواصر العلاقات الاجتماعية بين مختلف المناطق في المملكة.
وعلى الجانب الاقتصادي، يتيح ذلك للملكة الإسهام الفاعل في تحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في تقليل الاعتماد على النفط عبر تبني نموذج اقتصادي حيوي قائم على الإبداع والمعرفة المتوارثة يُطلق عليه الاقتصاد الإبداعي حيث يسهم في خفض نسبة البطالة وخلق فرص عمل جديدة، ورفع الناتج المحلي الإجمالي وزيادة حركة النشاط السياحي، فضلاً عن خفض الأضرار البيئية الناتجة عن المنتجات الصناعية.
وفي المجمل، يمكن القول إن صدور قرار الموافقة على اعتماد نظام الحرف والصناعات اليدوية يُعد في جوهره لبنةً أولى نحو الريادة في بناء اقتصاد إبداعي ومستدام.
مقال رائع و مُجزي
خطوة فعّالة تجاه مستقبل يعتزّ بالثقافة و الموروثات الحضارية و يحافظ عليها و ينميها،
ممتنين و فخورين بهذه الخطوة العظيمة