الإنسحاب الحكيم : حين يكون التراجع قمة الإنتصار

الدكتورة/هناء الهور-أستاذ مشارك جامعة الأمير فهد بن سلطان
في مسيرةِ الحياةِ، تمرُّ بنا مواقفُ تُختبر فيها حكمتُنا أكثرَ من قوتنا، وحينها يكونُ الانسحابُ هو العلامةَ الفارقةَ بين النضجِ والاندفاعِ. فليسَ كلُّ تراجعٍ هزيمةً، وليس كلُّ صمتٍ ضعفًا.. بل قد يكونُ الانسحابُ انتصارًا للذاتِ على نفسِها، وتحرّرًا من قيودِ الغرورِ والجدلِ العقيم.
كم من معاركَ خضناها وكانت نيرانُها تأكلُ طاقتَنا دونَ طائلٍ؟ كم من نقاشٍ جافٍ دخلناه فخسرنا فيهِ راحةَ البالِ قبلَ خسارةِ الحجةِ؟ هنا تبرزُ روعةُ الحكمةِ التي تميزُ بينَ المعاركِ التي تستحقُّ القتالَ وتلكَ التي تستوجبُ الترفعَ.
وهذا ما أرشدنا إليه القرآنُ الكريمُ في قولِه تعالى:
**﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾** [الفرقان: 63]،
وكأنَّ هذه الآيةَ تعلّمنا أنَّ السلامَ هو السلاحُ الأقوى في وجهِ الجهلِ. وقولِه تعالى:
**﴿فَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾** [الأعراف: 199]،
إشارةٌ واضحةٌ إلى أنَّ الإعراضَ عن الجدالِ ليسَ هروبًا، بل هو قمّةُ النضجِ.
انسحاب الحكيم هو علامة على الاتزان العاطفي، والقدرة على كبح الأنا، وتجاوز رغبة الرد والانتقام. إنه موقف يُعبّر عن احترام الذات، وعدم الانجرار إلى ما يقلل منها أو يستهلكها في معارك جانبية. والأهم من ذلك، أنه يفسح المجال للتركيز على ما هو أهم وأكثر جدوى، سواء في العلاقات أو الطموحات أو مسارات الحياة المختلفة.
ليس المطلوب أن ننتصر في كل مواجهة، بل أن نحسن اختيار معاركنا. فالحياة ليست ميداناً دائماً للقتال، بل فسحة للسلام والنمو. من يملك الشجاعة لقول “لا داعي لهذه المعركة”، يمتلك مفاتيح النضج الحقيقي. فلنتعلّم متى نُقدم ومتى ننسحب، متى نُعبّر ومتى نلزم الصمت. ففي التراجع أحيانًا، يكمن أرقى أشكال القوة، وأعمق دروس الحكمةا
بل قد يكونُ الانسحابُ انتصارًا للذاتِ على نفسِها، وتحرّرًا من قيودِ الغرورِ والجدلِ العقيم
من انتصر على نفسه، هزم الكون