معادلة التنمية الشاملة ..
مازن القحطاني
بعد قراءات متعمقة ودقيقة وجدت أن بعضها يذهب إلى أن الإستثمار في الإنسان أولوية والاستثمار في المكان قضية ثانوية، والبعض يرى أن الإستثمار في المكان هو الأولى وبعدها نستطيع أن نسعى في تنمية الإنسان إذا تهيئة الظروف والبيئة المناسبة.
ولكن هل تحدث أحد عن نموذج للتنمية الشاملة؟
وهل هناك دول نجحت في تحقيقها ؟
تتفاوت العوامل والقدرات بين الدول، فبعضها في الأرادة والبعض الآخر عكس ذلك ولكن الأدبيات في هذا السياق أشارة إلى أن أهم عوامل التنمية وتسريع وتيرتها وتقليل التكاليف اللتي يمكن الاستغناء عنها هو عامل التعليم، ومن أنجح دول العالم التي نجحت في تحقيق التنمية بعد انهيارات ضخمه هي دول الشرق الآسيوي في العصر الحديث مثل تايلند، سنغافورة، كوريا الجنوبية، تايوان، الصين.
وترجح الأدبيات أن سبب التقدم السريع لهذه الدول يعود إلى مستوى التعليم في هذه البلدان وقد صرح بعض الخبراء تعقيبًا على ذلك؛ أن مستوى التعليم العام في هذه الدول يوازي التعليم الجامعي في الدول الأوروبية المتقدمة.
التركز المفرط على التعليم والاستثمار في رأس المال البشري قد يكون نقمة ومصدر تهديد كبير فمنذ عقود، خصصت كيرالا موارد كبيرة لتحسين التعليم والرعاية الصحية مما أدى إلى ارتفاع معدلات التعليم خاصة في المدارس الثانوية والجامعات وعلى الرغم من هذا الاستثمار، لم تتمكن كيرالا من خلق فرص عمل كافية محليًا.
فقد عانت ولاية كيرلا في الهند من آفة الهجرة للخارج، في السنوات الأخيرة شهدت كيرالا زيادة كبيرة في عدد الطلبة المهاجرين للخارج، خاصة إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا، بحثًا فرص عمل أفضل.
وعلى الرغم من فقدان العقول، ساهمت التحويلات المالية من المهاجرين في دعم الاقتصاد المحلي، إلا أنها لم تكن كافية لتعويض فقدان رأس المال البشري، كما أن اعتماد الولاية على هذه التحويلات دون تطوير قاعدة اقتصادية محلية قوية جعلها عرضة للتقلبات الاقتصادية العالمية.
أما في الصين، فعلى الرغم من التطور الاقتصادي السريع، إلا أن نموها في رأس المال البشري لا يزال محدودًا مقارنة بحجم سكانها الهائل، مما يجعل توفير تعليم عالي الجودة وفرص عمل متقدمة لكل فرد أمرًا صعبًا.
هذا التحدي في تطوير الكفاءات البشرية يحد من قدرتها على التحول الكامل إلى دولة متقدمة (Developed) رغم الإنجازات الاقتصادية الضخمة، ويبرز أن التنمية الاقتصادية وحدها لا تكفي إذا لم تصاحبها استثمارات كافية في رأس المال البشري.
وبما أننا تطرقنا للصين فالصين تعد من الدول الأكثر إثارة عالميًا فيما يتعلق بإنجازاتها الضخمة وفي ذات الوقت استمرار معاناتها بشكل مستمر في قضايا التنمية البشرية.
وتعد الصين استثناءً في العديد من المقارنات وذكر لي ونقل لي ذات مره أستاذ جامعي، أن أحد زملائه الذي كان بصفته وزيرًا في أحدى الدول وكان في زيارة رسمية للصين وقد تعلم بعض الجمل والتي تعبر عن انبهاره بالصين وتقدمها الذي شاهده خلال الزيارة ليشارك هذه التعابير مع القادة الصينيين والوزراء الذين يلتقي بهم.
فما كان من الجميع بلا استثناء وقد قابلهم في أوقات متفرقه، إلا أن الرد من المسؤولين الصينيين كان (أنتم لا ترون الوضع في مناطق الساحلية والمناطق النائية الأخرى في الصين، فهم في أمس الحاجة للدعم والتنمية) فالوضع في الصين مستثنى!
بينما ترى الولايات المتحدة الأمريكية عكس ذلك، ففي مارس 2023، أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون يرفض تصنيف الصين كدولة نامية، وفي يونيو أيدت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ نفس التوجه بالإجماع، مطالبين وزارة الخارجية بعدم منح الصين أي معاملة تفضيلية والسعي لتعديل تصنيفها إلى دولة ذات دخل مرتفع أو متقدمة، ويحتاج المشروع لموافقة مجلس الشيوخ وتوقيع الرئيس ليصبح قانونًا نافذًا.
ولكن الصين أكدت أنها دولة نامية وفق معايير البنك الدولي والقانون الدولي، حيث يقل متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي عن حدود الدول المتقدمة، وهذا التصنيف معترف به في معاهدات دولية مثل منظمة التجارة العالمية واتفاقيات الأمم المتحدة المختلفة ومعمول به لدى المجتمع الدولي.
وفي إطار العوامل التي تؤثر في التنمية الشاملة والمستدامة كالتعليم، لابد أن نضع بعين الاعتبار عاملاً آخر أهم وهو الاستقرار السياسي، فلقد رجح الخبراء أن من أهم الأسباب التي تبطأ وتيرة التنمية في الدول الإفريقية هي الانقلابات والتقلبات السياسية المتواترة مما يجعل الطبقات الحاكمة في حالة ترب مستمر للحفاظ على السلطة مع إهمال التقدم الداخلي للبلاد، فضلا عن خلق بيئة طاردة للسكان وكذلك للاستثمار الأجنبي.
التطور والتنمية الصناعية من غير النهضة برأس المال البشري تعد مثل الفرحة المؤقتة، ولكن مع مراعاة النهوض برأس المال البشري تكمن قوة الدول على مواجهة التحديات الاقتصادية والمناخية والجيوسياسية بالابتكار والمعرفة مما يعزز المرونة لدى هذه الدول في مواجهة تحدياتها لإيجاد الحلول البديلة. وكمثال واقعي ونموذج شاهد على التنمية الشاملة، تعد رؤية المملكة العربية السعودية 2030 نموذجًا واضحًا، حيث ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية: اقتصاد مزدهر، مجتمع حيوي، ووطن طموح، مما يعكس سعي المملكة لتحقيق نهضة متوازنة ومستدامة.