المغادرة الصامتة



إبراهيم العنزي :

في زحام الحياة وتقلباتها، يمر الإنسان بمحطات وأماكن قد يشعر فيها أن وجوده بلا قيمة، أو أن ما يقدمه لا يُقدَّر حق قدره، أو أن روحه تُستنزف على حساب راحته وكرامته. وهنا تتجلى المغادرة الصامتة، تلك اللحظة التي يقرر فيها المرء أن يرحل بصمت، دون خصام أو صخب، تاركًا المكان بهدوء كما لو أنه لم يكن، لكنه في الحقيقة يترك وراءه أبلغ رسالة.

المغادرة الصامتة ليست ضعفًا ولا هروبًا، بل هي وعي عميق بأن كرامة الإنسان أثمن من أن تُهدر في بيئة لا تنسجم مع روحه. هي القوة التي لا تحتاج إلى إعلان أو تبرير، القوة التي تدرك أن الصمت أحيانًا أبلغ من الجدال، وأن الانسحاب قد يكون أشرف من البقاء في معركة لا طائل منها.

ولعل أعظم ما يُرشدنا إلى ذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت” (رواه البخاري ومسلم). فالصمت حين يخلو الكلام من الخير عبادة ونجاة، والمغادرة حين يغيب الاحترام والتقدير فوز وسلامة.

القوة الصامتة هي السلاح الذي يحمله العاقل، يواصل به حياته، ويُثبت ذاته بالأفعال لا بالأقوال. هي التي تجعل حضورك مهيبًا حتى وإن لم تُسمع صوتك، وتجعل الناس يفتقدونك حين تغيب أكثر مما قدّروا وجودك حين حضرت.

ليست كل مغادرة خسارة، وليست كل صمت ضعفًا. أحيانًا تكون المغادرة بداية لحياة أوسع أفقًا وأجمل أثرًا، ويكون الصمت رسالة أبلغ من ألف كلمة. لذلك، إذا وجدت نفسك في مكان لا يمنحك السكينة ولا يعكس قيمتك الحقيقية، فارحل بصمت، واترك للأيام أن تكتب حديثك بلا حروف، فالقوة ليست في الصخب، بل في الهدوء الذي يفرض احترامه بلا أن يطلبه.