حين يُصبح الجمال طريقة حياة وليس مشهدًا عابرًا

ثريا الشهري :
في زحمة هذا العالم، حيث تتسارع الخطى وتختلط الأصوات، يكاد الجمال يمرّ من أمامنا متخفّيًا في التفاصيل الصغيرة. ليس لأنه غائب، بل لأن أعين القلوب أُغلقت على ما اعتادت، لا على ما أُبدعت من أجله. فالجمال ليس لوحة تُعلَّق على جدار، ولا مشهد غروب يُلتقط بعدسة هاتف ثم يُنسى… الجمال حالة وعي، نافذة مفتوحة على الكون، تُعلّمنا أن نرى ما وراء الشكل، وأن نُصغي لما يتخطّى الضجيج.
أتذكّر صباحًا عاديًا من تلك الصباحات التي تمرّ عادة بلا ملامح. ورغم أنني أجيد صناعة الاستمتاع بالصباح وتنفس لحظاته، فإنني كنتُ في ذلك الصباح، وعلى غير العادة، أُسرع للحاق بموعدٍ ما، ورأسي مثقل بقائمة مهام اليوم. وفي لحظة عابرة، التفتُّ إلى النافذة؛ كان الضوء ينساب بخفة على طرف الستارة، وتغرد عصفورة صغيرة وكأنها تخاطبني وحدي. توقفتُ للحظة، شعرتُ بأن هذا المشهد الصغير يسرق ضجيج اليوم بأكمله. تماهيت في اللحظة، ولم أعد أشعر كم مرّ من الوقت. كانت لحظة واحدة، لكنها بدت وكأنها أبدية. لم يكن في الأمر شيء “مذهل” بمعناه السطحي، لكنه كان صادقًا بما يكفي ليهزّني من الداخل. تلك اللحظة لم تغيّر يومي فقط… بل غيّرت طريقتي في النظر إلى الحياة.
إن من يتعلّم فنّ استنطاق الجمال يدرك أن العالم من حوله ليس صامتًا، بل ينطق بلغة لا يسمعها إلا من أرهف حسّه. يصبح كل شيء حوله جديرًا بالتأمل: نغمة العصفور تلك، أوراق الشجرة التي تلوّح بلغة لا تُترجم، ازدحام المدينة الذي يشبه نبض الحياة، ارتباك الكلمات حين تنطقها العيون قبل اللسان… كل ذلك يتحول إلى قصيدة تنتظر من يقرأها.
في ركنٍ بسيط من حديقة، تنكسر أشعة الشمس على قطرات الندى، فتنسج لوحة لا يراها إلا من أضاءت بصيرته. وفي وجهٍ عابرٍ على رصيف، قد تسكن حكاية عمرٍ كامل، لا يفكّ شيفرتها إلا من تماهى مع نبض الجمال واستنطقها بقلبٍ صادق. فالجمال ليس في الأشياء بقدر ما هو في الطريقة التي نُصغي بها إليها.
الناس لا يختلفون في ما يرونه، بل في كيف يرونه. هناك من يمرّ أمام وردةٍ مزهرة فلا يرى فيها إلا نبتة عادية، وهناك من يرى فيها نشيدًا سرّيًا عن الخصب، وعن الصبر، وعن قدرة الحياة على التجدّد. إننا لا نحتاج إلى مزيدٍ من المناظر الجميلة، بل إلى عيونٍ قادرة على التقاطها، إلى قلوبٍ تَستقبل، لا تكتفي بالمشاهدة.
إنّ استحضار الجمال في حياتنا اليومية ليس ترفًا شعريًا، بل طوق نجاةٍ من قسوة الاعتياد. فمن اعتاد الإصغاء إلى نغمة الصباح على النافذة، لا ييأس بسهولة. ومن رأى في ارتباك اللغة دفئًا لا عجزًا، لا يخاف الصمت. ومن أيقن أن قصائد النور تتسلّل من شقوق النباتات، لا يُغلق باب الرجاء في قلبه.
لذا، علينا أن نُدرّب عيوننا على المحبة، لا على النقد فقط. أن نفتح نوافذنا على ضوءٍ مختلف، ونستقبل الكون كأنه يزورنا للمرة الأولى. فالجمال موجود في كل مكان… ينتظر أن نراه كما هو: نقيًا، بليغًا، حيًّا.وحين نُبصره حقًا، نصبح نحن الجمال ذاته.