تمادينا بالحزن.. حين يصبح الوجع أسلوب حياة

نورة بنت طالب العنزي :
في زمنٍ يزداد فيه ضجيج الحياة، وتتسارع فيه خيباتنا الصغيرة والكبيرة، نجد أنفسنا نُراكم الحزن دون وعي، نُربّيه في قلوبنا حتى يغدو مألوفًا، كأننا لا نحيا بدونه.
في هذا المقال، أتأمل معكم كيف تمادينا في الحزن، وكيف صارت أرواحنا مثقلة لا لأننا نُحب الألم، بل لأننا خفنا من الفرح. تمادينا كثيرًا بالحزن،حتى أصبحت أرواحنا تعتاد الضيق كأنه الأصل، وتخاف الانفراج كأنه خيانة لعهد الألم. تمادينا حتى فقدنا الدهشة… لا شيء صار يثير فينا العجب،لا ضوء جديد، ولا لقاء دافئ، ولا حتى كلمة “اشتقت لك” التي كانت يومًا تزلزل القلب.
كأننا قررنا أن نقيم في منطقة الوجع إلى أجلٍ غير مسمى،نرتّب آلامنا كل مساء كما يُرتب أحدهم مكتب عمله، نمسح الغبار عن الذكريات… لا لنُحييها، بل لنزيدها وضوحًا في مشهد الغياب.
تمادينا في الحزن حتى صار الفرح ضيفًا خفيفًا… يشعر بالحرج من المكوث طويلًا،يمرّ سريعًا كأننا لسنا جديرين به، أو كأننا نخشى أن نفرح ونُعاقب بعدها. وكلما حاولنا الخروج من دوامة الغصة،سحبتنا الذاكرة إلى حيث بدأ كل شيء، إلى الوعود التي لم تُوفَ،إلى الظهور الذي خذل، إلى الكلمات التي قيلت لا حبًا… بل تملقًا.
أصبحنا نخاف أن نُشفى، فقد أدمنا الحزن حتى صار أحد ملامحنا،
وصرنا نخشى أن نُصبح غرباء عن أنفسنا إن عادت أرواحنا خفيفة.
تمادينا كثيرًا بالحزن،ولم يكن الحزن عدوًا… بل رفيقًا بالغ في المكوث،
حتى أفسد علينا لذة الحياة، وقاسمنا تفاصيلها دون أن يُسأل.
الحزن في بداياته إنساني، بل إنه رد فعل نبيل على فقدٍ أو خيبة أو جرح لم يُجبر بعد.لكنه حين يتحوّل إلى إقامة دائمة، يغدو قيدًا ناعمًا يُطوّق القلب ويخنق الروح. لا لأننا نُحب الحزن، بل لأننا اعتدناه.
ألفناه حتى صار جزءًا من طقوسنا اليومية… منّا نولد بضحكة، بشغف فطري للدهشة ، لكن الحياة تأخذ منّا شيئًا فشيئًا، حتى ننسى أنفسنا القديمة.
نُتقن الصمت، نتقن التظاهر، ونضع وجوهًا اجتماعية لكل موقف،لكن ما أكثر الوجع الذي لا يُرى، وما أثقل الأحمال التي لا تُحكى.
لقد آن لنا أن نُعيد النظر:
هل الفرح ترفٌ؟
هل الشفاء خيانة؟
هل العودة للحياة تستوجب اعتذارًا لمن خذلونا؟
لا بأس أن نحزن… لكن لا تجعلوا من الحزن وطنًا. ولا تتعاملوا معه كوسام دائم في صدوركم. إنه شعور، لا هوية. وجسر، لا منزل.
في لحظة وعي، لحظة صدق مع الذات، لا بد من الوقوف بوجه كل ما امتصّ منّا الحياة، والسؤال بمرارة وحنين:
أما آنَ لنا أن نُسامح قلوبنا؟
أن نربّت على صدورنا كما نربّت على طفلٍ مرعوب؟
أن نقول لأنفسنا: يكفي، لقد كان الحزن طويلًا بما يكفي.
لقد آن لنا أن نُخفّف من وطأة هذا الحمل الذي اخترنا حمله طوعًا.
فالحزن ليس تاجًا نعلّقه على رؤوسنا لنبدو أعمق، ولا هو وشمٌ نُفاخر به كدليل على التجربة.
لكي ننجو، علينا أولًا أن نعترف بأننا بالغنا، تمادينا، وأسرفنا في اجترار الوجع حتى استهلكنا أنفسنا.
فلنُصافح الضوء من جديد، لا بخجل… بل بإيمان أن أرواحنا تستحق الخفة، وأن في داخل كل واحدة منا بذرة فرح تنتظر من يُسقيها.