الداء المُستتر بثياب الوقار !!



عبدالمحسن محمد الحارثي

في مجتمعاتنا، حيث يُقدس الظهور ويُبجّل المظهر، يختبئ داء قاتل لا يُرى بالعين المجردة، لكنه ينهش في نفوس الناس ويدمّر القيم الإنسانية من الداخل.. إنه داء الاستغناء المتعالي، الجفاء المتنكر في ثياب الوقار، واللؤم المقنع برداء المروءة ، وهذا التجاهل المتعالي ليس حكمة، بل نقص في الفطرة الإنسانية .

هذا المرض النفسي والسلوكي، لا يُعلن عن نفسه بصراحة، بل يتخفى خلف قناع الاحترام واللباقة، يبتسم بأفواههم، ويخفي في صدورهم أقسى أشكال الإهمال والاحتقار. يتراءى للناس في هيئة العزة والقوة، لكنه في جوهره ضعف في الرحمة، وعجز عن التواضع، وانعدام للإنسانية ، ماركوس أوريليوس (فيلسوف روماني)يقول:

“لا تدع أفعال الآخرين تزعجك، بل ضع في اعتبارك نفسك”.

الاستقلال الداخلي لا يعني قطع الصلة الإنسانية بل ضبط النفس.

أصحاب هذا الداء لا يرون الناس إلا من خلال عدسة المصالح والمنافع، ولا يبالون إلا بمن يضيفون إليه مكانة أو نفوذًا..كل من لا يفيدهم، أو لا يعزز من هيبتهم الاجتماعية ؛ يُغيبون وجوده، ويتجاهلون كينونته، وكأنّه من الهواء لا من البشر.. استغناءهم ليس استغناء نابعًا من كرامة النفس، بل استعلاء يتربص بالضعفاء في نظرهم ، وتكبر يجعلهم يعيشون في عظمة كاذبة، تفتقر إلى جوهر الأخلاق والصدق ، يقول ابن مسكويه:
“الكرم هو صفة العظماء، والحقارة تلازم المتكبرين.”

القيم الإنسانية والكرم يتناقضان مع الكبرياء الزائف ، فالمروءة أن ترى الناس بعين القيمة، لا بعين المنفعة.

وهذه الوقاحة المقنعة، هذه العظمة الزائفة ؛ ليست فقط قسوة في التعامل، بل هي خذلان للنفس الإنسانية قبل أن تكون خذلانًا للآخرين ، ومن لا يُشعرك بإنسانيتك، فليس بإنسان مهما علا قدره ، فالعظمة المزيفة تصنعها الأضواء، والعظمة الحقيقية تبنيها الأخلاق ، فمن يتعالى ويتجاهل ؛ يفقد مفتاح الرحمة وأصالة العلاقات التي هي أساس أي مجتمع حي ومتقدم ، جلال الدين الرومي يقول :
“العظمة الحقيقية ليست في أن تكون فوق الناس، بل في أن تكون مع الناس.”

التواضع أساس العظمة الحقة

قال الإمام ابن القيم: “من استغنى بالله أغناه، ومن استعز بغيره أذله.” إن الاستغناء الحقيقي لا يعني الانعزال عن الناس أو التجاهل لهم، بل هو قوة داخلية نابعة من الثقة بالنفس والقناعة، تجعل الإنسان يفتح قلبه وعقله للآخرين، لا ليطلب منهم، بل ليعطي بلا مقابل.

أما من يستغني عن الناس استعلاءً وتعاليًا، فهو الفقير حقًا، فقير الروح، فقير القلب، الذي اختار العزلة عن الإنسانية، وأعلن الحرب على كل ما هو كريم في النفس البشرية ، فالوقار الحقيقي لا يُخفِي جفاء، ولا يتغطى بالاستعلاء .

إن هذه الظاهرة التي تنتشر في أوساط ذوي المكانة والجاه الاجتماعي ؛ تبث سمومها في العلاقات، وتقوض أسس المجتمع، فتصنع فجوة عميقة بين الناس، تجعل من الاحترام متاجرة، ومن التعاطف صفقة، ومن التواصل جسرًا يحمله فقط من يحمل مصلحة ، فمن ظنَّ أن الناس سُلّم يصعد به، سقط عن أول عتبة .

وفي زمن باتت فيه القيم الإنسانية مهددة ؛ يصبح من الضروري أن نكشف هذا الداء المستتر، ونعري زيفه، ونعمل على تقويضه بهمة الوعي، ورجاحة العقل، وصدق القلوب ، فمن استغنى عن الناس تواضعًا، زاده الله رفعة؛ ومن استغنى استكبارًا، فضحه الاحتياج .

إن الإنسان الحق هو من يستغني عن الناس بالحكمة والكرم، لا بالاستعلاء والاحتقار.. والكرامة ليست في مناصب ولا ألقاب، بل في الرحمة التي تغمر النفوس، والصدق الذي يجمع القلوب، والتواضع الذي يرفع الإنسان فوق كل ما هو دنيوي وزائل .


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • Rating


مواضيع ذات صلة بـ الداء المُستتر بثياب الوقار !!

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الراية الإلكترونية © 2018 - 2025

تصميم شركة الفنون لتقنية المعلومات