الْأَبُ بَيْن الْحَبّ وَالْجُحُودُ.. مِنْ الْمَسْؤُولُ عَنِ تَغَيَّر مَكَانَتِه؟



نواف بن سفر العتيبي

تصلني رسائل كثيرة وأحاديث من زملاء وأقارب وجيران، تدور جميعها حول مكانة الأب في الأسرة.

لمست من خلالها نوعًا من الجحود أو ضعف الاهتمام من بعض الأبناء، أو غياب الوعي بما يجب عليهم تجاه آبائهم.

أحببت أن أشارككم بعض الملاحظات والتأملات في هذا الموضوع المهم.
في بداية الحياة الزوجية، يكون الأب الرقم الأول في الأسرة.

الكل يحتاجه، يستشيرونه، ينتظرون قراراته، ويحتمون بوجوده ويخشون غضبه.

لكن مع مرور الوقت، ومع قدوم الأبناء والبنات وتبدّل الأدوار، يتغير ترتيب الأسرة دون أن نشعر.

فهل ما زلت أيها الأب اليوم الرقم الأول في بيتك؟
أم أن الأضواء خفتت، وبدأ تأثيرك يتراجع؟

كثير من الآباء يكتشفون بعد سنوات أن حضورهم أصبح شكليًا.
الأبناء كبروا، والبنات استقللن بآرائهن، والزوجة لم تعد تكترث لوجوده، وأصبحت صاحبة القرار في كثير من التفاصيل.

البعض يرى هذا أمرًا طبيعيًا مع الزمن، وآخرون يرونه نتيجة انسحاب الأب تدريجيًا من دوره القيادي والتربوي.

لكن السؤال الأهم:
هل أنت أيها الأب من تخلّيت عن دورك؟ أم أن زوجتك وأبناءك استغنوا عنك؟
الحقيقة أن المسؤولية مشتركة.

الأب الذي انشغل بعمله وترك الحوار والوقت الأسري، فقد مكانه تدريجيًا دون أن يشعر.

الأم التي سيطرت على القرارات وأبعدت الأب بحجة قربها من الأبناء، ساهمت في تراجع دوره.

والأبناء الذين لم يقدّروا تعب أبيهم أو تجاهلوا مكانته، شاركوا في هذا الإقصاء العاطفي.

وربما يكون هناك جحود مشترك من الزوجة والأبناء نتيجة قناعة خاطئة بأن الأب كبر سنًا أو أن رأيه لم يعد مناسبًا.

بعض الأسر تتعامل مع هذا التجاهل وكأنه أمر طبيعي، حتى أصبح نكران الجميل ظاهرة مألوفة.

مع ذلك، يظل الأب حريصًا على أسرته، يقدم لهم خبراته، ويخاف عليهم من الأخطاء التي خبرها بنفسه، لكنهم لا يدركون ذلك.

مكانة الوالدين في الكتاب والسنة:

قال الله تعالى:
” وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” (الإسراء: 23) .

وقال سبحانه:

” وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” (الإسراء: 24).

هاتان الآيتان تضعان برّ الوالدين في مرتبة عظيمة بعد عبادة الله مباشرة، وتدعوان إلى التواضع والرحمة معهما، خصوصًا عند كبرهما وضعفهما.

وقال رسول الله ﷺ:” رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد” (رواه الترمذي) .

وقال ﷺ: ” *أنت ومالك لأبيك” (رواه ابن ماجه) .

وفي الحديث المتفق عليه:

“أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك.”

يخطئ بعض الأبناء حين يظنون أن البر بالأم يُغني عن برّ الأب، فيجعلون للأم كل الاهتمام، وللأب نصيبًا قليلًا من التقدير والعاطفة.

بين حب الأم وحق الأب:
قد يرى بعض الأبناء أن البر بالأم هو الأولى، فيخصونها بالاهتمام والطاعة والهدايا.

لكن التربية السليمة تقوم على العدل بين الوالدين في البرّ والإحسان، كما قال تعالى:

 ” وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا” (الأحقاف: 15) كلمة “بِوَالِدَيْهِ” جاءت مثنّاة لتؤكد أن البرّ لا يُقسم، بل يُمنح لكليهما بالحب والاحترام والتقدير.

استعادة مكانة الأب:
إعادة الرقم العائلي للأب مسؤولية الأسرة كلها.
أن يسمع له، ويُقدّر دوره، وتُحفظ مكانته ومشاعره.
أن يكون الأب قدوة في المواقف لا في الكلام فقط.
أن تدعم الأم مكانة زوجها أمام الأبناء، وتُظهر احترامها له.
وأن يدرك الأبناء أن للأب مكانة لا تُعوّض، فهو أصل البيت وأمانه.

التوجيه الأسري المتكامل:
الأب: يستمر في دوره التوجيهي والوجداني.
الأم: تعزز هذا الدور وتسانده.
الأبناء: يردّون الجميل بالاحترام والبرّ والاعتراف بالفضل

الخاتمة: 
الرقم العائلي للأب لا يُمنح، بل يُصنع بالأفعال والمواقف.

قد يتغير ترتيب الأسرة مع الزمن، لكن من يتمسك بالحب والقدوة والتواصل، يبقى في القمة مهما تغيّرت الأدوار.

يظل الأب الرقم الأول في القيم والحضور والعطاء، لا في السلطة فقط.

الأب الحقيقي لا يفقد رقمه مهما تغيّر الزمان، لأنه الأصل والجذر، ومنه تبدأ الحكاية وإليه تعود.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • Rating


مواضيع ذات صلة بـ الْأَبُ بَيْن الْحَبّ وَالْجُحُودُ.. مِنْ الْمَسْؤُولُ عَنِ تَغَيَّر مَكَانَتِه؟

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الراية الإلكترونية © 2018 - 2025

تصميم شركة الفنون لتقنية المعلومات