بيني وبين الغروب… ملامح أبي
   
          نورة بنت طالب العنزي :
ثمّة لحظاتٍ لا يطالها النسيان مهما توغّل بنا الزمن ،لحظات تتوارى خلف ضوء المساء، لكنها تبقى نابضة في القلب كنبضٍ خفيٍّ يذكّرنا بأننا مررنا يومًا بظلٍّ من حنانٍ لا يُعاد.
الفقد ليس حدثًا يقع ثم يُنسى، بل هو حياةٌ أخرى نعيشها بصمت، نحمل فيها أسماء أحبّتنا الغائبين في صدورنا، ونمضي كما لو أننا نحرس حضورهم الغائب.
وفي كل عامٍ يمضي، تتّسع المسافة بيننا وبينهم، لكنّ الذاكرة تبقى تُشعل قنديلها، كي لا يبتلع الغروب وجوه الذين رحلوا.
ومن بين كلّ الوجوه، يظلّ وجه الأب أصدقها حضورًا… وأوجعها غيابًا.
أسأل نفسي هذا المساء: متى كانت آخر مرّة رأيت فيها أبي؟
ويأتي الجواب كغصنٍ مبلولٍ بالحنين: منذ ثمان سنوات. ياااه… ما أطولها على القلب، وما أسرعها على الغياب!
كنت أتحاشى العدَّ، كمن يخاف أن يسمع خرير الزمن يبتعد عن وجهه الحبيب.
كنت أخشى أن تغدو ملامحه ذكرى باهتة، أن يبهت صوته في الذاكرة، أن يذوب حضوره كما يذوب قرص الشمس في آخر الغروب، تاركًا خلفه ضوءًا لا يُمسك ولا يزول.
كان أبي أولى الملامح التي علّمتني الاطمئنان، وصوته أول وطنٍ سكنته دون أن أعي معنى الوطن.
كان إذا دعا، أزهرت روحي، وإذا ابتسم، هدأ العالم في صدري.
لم يكن يملك ثروةً تُذكر، لكنه أورثني ما هو أثمن: يقينًا بأن الحنان يمكن أن يكون مذهبًا من غير ذهب، وأن الرجولة ليست صخبًا، بل سكونٌ يحمل الحياة في راحتيه.
وحين رحل، لم يُحدث صوتًا. غاب كما يغيب الضوء في انحناءة المساء؛ بهدوءٍ لا يليق إلا بالأنقياء.
ترك لنا مقعدًا فارغًا على المائدة، ودعاءً يتهامس في زوايا البيت، وطمأنينةً تجسّدت في غيابه أكثر ممّا كانت في حضوره.
منذ رحيله، صرت أرى العالم بملامحه القديمة.
كلّ صباحٍ يحمل شيئًا منه، وكلّ مساءٍ يُعيدني إلى حضنه الغائب.
أشتاق إلى صوته حين كان يقول باسمي ببساطةٍ تُذيب كل خوف، إلى ملامح وجهه حين يطمئن عليّ بصمتٍ يشبه الدعاء.
أشتاق حتى إلى صمته الذي كان يُفسّر كلّ شيءٍ دون كلام.
أخشى اليوم أن تضعف ذاكرتي كما تضعف ملامحه في البعد.
أخشى أن تُبدّد السنينُ رائحة يديه، وأن يصير وجهه ظلًّا لا أستطيع أن ألمسه إلا في الحلم.
لكنّي، كلّما أوشكت على النسيان، يمرّ طيفه بي كريحٍ طيّبةٍ تذكّرني أن الحبّ لا يُقاس بالوجود، بل بالبقاء في القلب.
ثمانُ سنواتٍ يا أبي، وما زلتَ تسكنني كنبضٍ لا يخفت.
رحلتَ، لكنّك تركت في روحي جذورًا لا تجفّ، تذكّرني أن الحنان لا يُدفن، وأن الذين أحبّونا حقًّا لا يغيبون، بل يتحوّلون إلى ضوءٍ خفيٍّ يرافقنا أينما مضينا.
هناك، في مقبرة صديان بحائل، يرقد أبي بهدوءٍ يشبه طباعه.
في مدينةٍ تشبهه كرمًا وجودًا، ثابتٍ كجبالها، وسخيٍّ كأرضها،
حتى ليخيَّل إليّ أن حائل احتضنته لأنها تشبه قلبه النبيل.
كأنّ المكان خُلق ليحفظه في حضنٍ من ترابٍ طيّبٍ لا يؤذي الذاكرة،
وفي سماءٍ لا تغيب عنها الشمس إلا لتعود بطمأنينةٍ تشبه صوته.
أمضي إليه كلّما ضاق صدري، لا لأبكيه، بل لأستعيد سكونه الذي علّمني كيف يُشفى القلب بالصبر.
حتى النسمات الباردة تعرف طريقه، تمرّ به بهدوءٍ يشبه حضوره القديم ، لا شيء يُشبه رحيل الأب، فهو الفقدُ الذي لا يكتمل نسيانه، والوجعُ الذي لا يُشفى منه القلب.
هو الغياب الذي يترك فينا صدى الأمان المفقود، ويعلّمنا أن للحبّ وجهًا آخر لا يراه إلا من ذاق الفقد.
رحل أبي، لكنّه ما زال يمدّني بالقوّة كلّما تعبت، وما زال صوته الخافت يوقظني من حزنٍ طويلٍ كأنّه يقول:
«أنا لم أرحل، أنا فيكِ ما حييتِ.»
فتمضي الأيام، وأمضي معها، أحمل وجهه في قلبي كآيةٍ محفوظة، وأستظلّ بحنانه كلّما أرهقني الغياب.
فالأب لا يموت… هو فقط يغيب عن العين، ويستقرّ في القلب إلى الأبد.



