من أساء إليك… فقد حرّرك



ابراهيم العنزي :

في مسيرة الحياة، كثيرًا ما نُفاجأ بأشخاصٍ كنا نظنّهم سندًا فإذا بهم مصدر الأذى، وبقلوبٍ حسبناها نقيّة فإذا بها تُخفي خناجر من الغدر. غير أن أجمل ما في التجارب المؤلمة أنها لا تتركك كما كنت؛ فكل إساءةٍ تصقل روحك، وتفتح لك نافذةً أوسع نحو فهم نفسك والناس من حولك.

من أساء إليك لم يُهِنك، بل كشف لك عن مواضع ضعفك لتقوّيها، وعن مواضع ثقتك لتضعها في موضعها الصحيح. ولعل الله أراد بتلك الإساءة أن يُطهّرك من تعلّقٍ أو خيبة، لتتعلم أن السلام لا يُستمد من الناس، بل من الله وحده. فكم من إساءةٍ أيقظت فينا قوة داخلية كنا نجهلها، وكم من خذلانٍ كان مفتاحًا لحريةٍ داخليةٍ لم نكن ندركها.

قال النبي ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.»
هذا الحديث الشريف يُظهر جوهر العظمة في الإنسان؛ فالقوة ليست في الغلبة أو الصوت العالي أو سرعة الرد، بل في امتلاك النفس لحظة الغضب. من يقدر على ضبط مشاعره وقت الإساءة، فقد انتصر على أعتى خصومه: نفسه. فالنبي ﷺ يُعلّمنا أن البطولة الحقيقية لا تكون في رد الإساءة بالإساءة، بل في كبح جماح النفس، وكظم الغيظ، والرد بالحكمة والاتزان. وهنا يظهر الوعي، ويُختبر الإيمان، وتُبنى الشخصية الراسخة التي لا تهزّها المواقف العابرة.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما ندمت على سكوتي مرة، ولكن ندمت على الكلام مرارًا.»
وهذه حكمةٌ عظيمة في الردّ على الإساءة، فحين تختار الصمت لا ضعفًا بل تعاليًا، تكون قد بلغت مقام القوة الهادئة، القوة التي لا تحتاج إلى ضجيج لتُثبت وجودها.

وهنا يلتقي هذا المبدأ مع فن القيادة في أبهى صوره؛ فالقائد الحقيقي ليس من يُحسن إدارة الآخرين فحسب، بل من يُتقن قيادة ذاته أولًا. القيادة تبدأ من الداخل، من لحظةٍ يختار فيها المرء الهدوء بدل الانفعال، والاتزان بدل الاندفاع. فالقائد الواعي حين يُساء إليه لا يرد بغضب، بل يدرس الموقف، يفهم أسبابه، ويتخذ قراره بعقلٍ راجح لا بعاطفةٍ مشتعلة.
ومن يُحسن قيادة نفسه في المواقف الصعبة، يصبح قادرًا على قيادة الآخرين بعدلٍ وثقةٍ واحترام، لأن السيطرة على النفس هي أعظم درجات القيادة، وأصدق دلائل الحكمة.

ومن أجمل ما قيل: «الإساءة ليست نهاية العلاقة، بل اختبارٌ لها، فإن بقيت بعدها فهي صادقة، وإن تلاشت فهي لم تكن يومًا حقيقية.»
كم من شخصٍ أساء إليك دون أن يدري أنه قدّم لك معروفًا، فقد ساعدك على تنقية قلبك من التعلّق، وأيقظ فيك البصيرة لتفرّق بين من يُحبك بصدق ومن يتقن التمثيل.

إن من أساء إليك قد خدمك دون أن يشعر، وحرّرك من التعلق الزائد بالناس، ومن الحاجة المستمرة للقبول، وفتح لك بابًا إلى صفاءٍ لا يُمسّ، وسكينةٍ لا تهتزّ. فاشكره في سرّك، ليس لأنه يستحق الشكر، بل لأن الله استخدمه سببًا ليطهّرك من ضعفك، ويرفعك عن مستوى ردّ الفعل إلى مقام الوعي.

وهنا قال الشاعر الكبير محمد عاند الفقير  بقصيدته المشهورة :

تخيبثي يا هل القلوب الخبيثات
              تبيني يأهل الحَسد والضغينه
تكشفلي الطرقه بعاد المسافات
              واعرف خوّي الجنب بأول مدينة

هذه القصيدة تختصر تجربة الوعي بعد الألم، حين تتحول الخيبة إلى بصيرة تكشف الوجوه على حقيقتها، وتُعلّمك أن البعد أحيانًا رحمة، وأن الأقنعة لا تسقط إلا بالمواقف. هي صرخة حكيمٍ أدرك أن النقاء لا يُقاس بالقرابة، وأن الإساءة ليست نهاية الطريق بل بدايته نحو فهمٍ أعمق للحياة.

واعلم أن أعظم انتقامٍ ممن أساء إليك، هو أن تعيش سعيدًا، وأن تبقى نقيًا رغم ما حدث، وأن لا تسمح للإساءة أن تغيّرك. فالماء يبقى صافيًا مهما رُميت فيه الحجارة، لأنه لا يجيد سوى الصفاء.