جامعة بلا أسوار



مازن القحطاني

من تجربة واقعية شخصية، بدأ نطاق التفكير يتسع أكثر فأكثر.

خلال رحلتي الجامعية وبعد أن قضيت ثلاث سنوات من الدراسة الجامعية، خطر ببالي أن أستغل الصيف القادم بالعمل في جهة ما. لم يكن الهدف من تجربة هذه ماديًا أبدًا، بل كان بدافع الفضول والشغف بدمج التعليم مع الممارسة العملية. كنت على يقين أنها ستكون تجربة مثرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ لطالما اعتقدت أن الخريج غالبًا ما ينتظر أشهرًا قبل الحصول على وظيفة قد لا تمت لتخصصه بصلة، فيرضى بها اضطرارًا.

أما أنا، فقررت أن أذهب إلى مكان عمل قريب من مجال دراستي لأرى كيف تكون نتيجة ممارسة المعرفة.

كانت النتائج مدهشة. معظم من حولي من الموظفين جاؤوا من خلفيات علمية لا تمت بصلة مباشرة لطبيعة العمل، عدا أحدهم… وكاتب هذه السطور.

سرعان ما بدأت بالاندماج والمشاركة والأخذ والعطاء بسرعة فاقت توقعاتي، إلى درجة أنني كنت أعود في بعض المرات دون علم أحد إلى المنهج الجامعي لأراجع وأتأكد من بعض النقاط والمراجع والنماذج. وعندما عدت إلى مقاعد الدراسة، أبهرت أعضاء هيئة التدريس بكمية المعلومات المحدثة والممارسات الواقعية التي اكتسبتها دون علم أحد أنني كنت أعمل في الصيف. ما أجمل، وما أنجح تلك التجربة!

ما نشهده اليوم من انفتاح الجامعات والمؤسسات التعليمية في المملكة على الأوساط الأخرى ليس فقط العملية والميدانية بل المجتمعية أيضًا وهو خطوة رائدة بكل المقاييس. لم تأتِ بمجرد قرار، بل كانت ثمرة دراسة عميقة لقياس آلية الاندماج بين الجامعة والمجتمع.

كانت الجامعات في الماضي كنزًا يضم نخبة من العلماء والأكاديميين، تحتضنهم بأسوارها وتقولبهم ضمن بيئة محددة، حتى وجدت القطاعات الأخرى نفسها أمام فراغ في الخبرة العلمية التي تُبنى عليها الرؤى والاستراتيجيات، فابتعدت الجامعات عن مشهد التنمية الشاملة. الاستثناء الوحيد كان في بعض المجالات الصحية التي تتطلب الدمج بين الدراسة والممارسة، ولعلها من أنجح النماذج في الانتقال المعرفي بين مقاعد الدراسة ومواقع العمل.

أما اليوم، فنشهد تحول للعديد من الأكاديميين إلى الأوساط المهنية ضمن آلية محوكمة، بعيدًا عن كم المعرفة الهائل الذي كان محصورًا داخل أسوار الجامعة. ومن أبرز الخطوات في هذا الاتجاه إلغاء شرط العودة للتدريس بعد ابتعاث عضو هيئة التدريس لإكمال دراساته العليا بقدر السنوات التي تحملت فيها الجامعة تكاليفه. خطوة مهمة للغاية، إذ أن عودة المبتعث للجامعة بعد أربع سنوات من الدراسة ثم اضطراره للبقاء أربعًا أخرى لاستيفاء الشرط، كانت كفيلة بخلق بيئة استقرار مهني تحدّ من انتقاله لاحقًا إلى قطاعات أخرى.

لا يعني ذلك أن على جميع الأكاديميين اتباع النهج ذاته، لكن من المهم لصناع القرار في الجامعات إيجاد حيثية توازن بين بقاء الأكاديميين داخل المؤسسات التعليمية وخروج بعضهم إلى القطاعات الأخرى، لضمان تدفق المعرفة في الاتجاهين.

تعتمد بعض الجامعات عالميًا نظام Extension، وهو نموذج أكاديمي ومجتمعي يُعنى بربط التعليم بالعمل والتجارب الواقعية، من خلال برامج ومراكز تُعرف أحيانًا باسم Continuing Education أو Outreach.

فلنفترض أن هناك قسم أكاديمي لتخصص الزراعة في إحدى الكليات، فيكون هذا القسم ذو ثلاثة توجهات رئيسية وجرت العادة أن تكون ذات توجهين وهي التركيز على صناعة المعلومة ومم ثم نقل المعلومة للطلبة، ويمكن الخلل هنا أن المعلومة لا تصل للمزارعين ! فيأتي دور نظام Extension ليربط جسور المعرفة بين جميع أصحاب المصلحة ونقل المعرفة من أسوار الجامعة إلى المجتمع والصناعة والقطاعات المهنية، عبر التدريب والتطبيق العملي والمشروعات التشاركية. وقد أثبتت هذه الممارسات نجاحها في مؤسسات تعليمية مرموقة، مثل جامعة كاليفورنيا وجامعة كورنيل، اللتين أسستا منظومات “Cooperative Extension” لتفعيل دور الجامعة في التنمية المحلية وربط النظرية بالممارسة. وهي تجربة تستحق التأمل والنقل بما يتناسب مع بيئتنا التعليمية والاجتماعية في المملكة.

ختامًا، فالإسراف في تقييد المعرفة داخل نطاقات محددة قد يؤدي إلى نشوء بيئة أكاديمية مغلقة، بينما يُحرم أهل الممارسة أيضًا من إثراء تجاربهم بالنظريات والدراسات العلمية.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • Rating


مواضيع ذات صلة بـ جامعة بلا أسوار

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الراية الإلكترونية © 2018 - 2025

تصميم شركة الفنون لتقنية المعلومات