ومضة في “فينيسيا الألب”حينما تستوقفك الحياة لتلتقط لها صورة
في قلب مدينة آنسي الفرنسية، تلك الجوهرة التي تلقب بـ “فينيسيا الألب”، كنت أسير كمن يجد في السفر ملاذاً وفي عدسة الكاميرا وسيلة لاقتناص لحظات الجمال وتخليدها داخل صورة.
بين قنواتها المائية الساحرة وأزقتها التي تفوح بعبق التاريخ، حيث تقع بحيرة آنسي التي تعد من أنقى بحيرات أوروبا، تتكشف الحياة في أبهى صورها وأكثرها عفوية.
وإذا كانت آنسي هي “فينيسيا الألب”، فإن سوقها هو قلبها النابض الذي يفوح بعبق “سافوا” الأصيل. في “سوق المدينة القديمة” (Marché de la Vieille Ville)، الذي يقام لأيام محددة في الأسبوع، يتحول المكان إلى مهرجان حقيقي للحواس. هنا، يتربع الجبن على عرش المشهد، حيث تتراص عجلات الجبن الضخمة من عدة أماكن مثل إقليم سافوا، وجبن “الروبلوشون” (Reblochon) اللازم لإعداد طبق “التارتيفليت” الشهير، و”البوفورت” (Beaufort) الملكي، و”التوم دي سافوا” (Tome des Bauges). الرائحة القوية والمميزة لهذه الأجبان، التي تتجاوز الـ 150 نوعاً لدى بعض الباعة، تمتزج بعبق الخبز الطازج والفواكه الموسمية، لتخلق تجربة حسية لا تُنسى، وتؤكد على أن آنسي ليست مجرد وجهة بصرية، بل هي مركز للذوق والروح.
كنت هناك، امرأة سائحة تحمل كاميرتها، أتجول في البلدة القديمة بشوارعها المرصوفة بالحصى ومبانيها التي تروي حكايات القرون الوسطى. فجأة، ومن بين أحاديث المتسوقين، وهتاف البائعين، وصخب الحياة اليومية، استوقفني فتى لم يتجاوز العاشرة من عمره،كان يركب دراجته بثقة، جزءاً أصيلاً من روح المدينة الحية، رأى الكاميرا بيدي، وبإشارة بسيطة وابتسامة بريئة، طلب مني أن أصوره. “صوريني!”، وكأنها كلمة سر فتحت بوابة إلى لحظة إنسانية عميقة داخلي!.
لم تكن رغبة هذا الفتى مجرد رغبة طفولية في الظهور، بل كانت ومضة من رغبة النفس البشرية الفطرية في ترك أثر، في أن تكون جزءاً من حياة شخص آخر، حتى لو كان عابر سبيل. في تلك اللحظة، توقفت أنا، وتوقف الزمن، لالتقاط صورة للحياة ذاتها. لم يكن بيننا أي كلام، فقط لغة العيون التي فهمت منها تلك الرغبة في الخلود، في أن نصبح ذكرى جميلة في ذاكرة أحدهم.
التقطت له تلك الصورة العجيبة، ليس فقط لجمالياتها الفنية، بل لعمق اللحظة التي حبستها. فتى على دراجته، ينظر نظره ملؤها البراءة والأمل، في مدينة تُعرف بكونها “مدينة العشاق” لسحرها واجوائها الجميلة.
لماذا نريد أن نترك أثراً؟
ما الذي يدفع طفلاً لأن يوقف غريبة في شارع مزدحم ليطلب منها صورة؟ إنها رغبة أعمق بكثير من مجرد الفضول، إنها غريزة إنسانية أصيلة. كل واحد منا، في أعماقه، يملك دافعاً قوياً لأن يشعر بأن لحياته معنى، وبأنه لم يمر على هذه الأرض مرور الكرام.
الخوف من النسيان: كل إنسان يدرك، ولو بشكل غير واعٍ، أن الحياة قصيرة. هذا الإدراك يجعلنا نبحث عن طرق لنبقى “على قيد الحياة” حتى بعد رحيلنا. طلب الفتى للصورة هو طريقة بسيطة ليقول: “أنا هنا، تذكروني”. إنه يريد أن يعيش في ذاكرتك، في قصة رحلتك، ليصبح جزءاً من شيء أكبر منه. هذه هي “الرغبة في ترك بصمة”.
الحاجة للتأثير: منذ الصغر، لدينا رغبة في أن نؤثر في العالم من حولنا. الطفل يبني قلعة من الرمل ليشعر بالإنجاز، والكبير يسعى لترك إرث في عمله أو عائلته. طلب الفتى للصورة هو فعل “تأثير” بسيط. لقد أوقف مسار يومي، وجعلني أراه، وأتفاعل معه. لقد صنع لحظة خاصة به، وهذا بحد ذاته “تحقيق للذات”.
الشعور بالوجود: في عالم مزدحم، قد نشعر أحياناً بأننا غير مرئيين. أن يراك شخص ما، ويوثق وجودك بصورة، هو تأكيد قوي على أنك موجود ومهم. لقد كانت تلك الصورة بالنسبة له شهادة على وجوده في تلك اللحظة وذلك المكان.
ذلك الفتى كان عابر سبيل في رحلتي، وأنا كنت عابرة سبيل في يومه. لكن في تلك اللحظة الخاطفة، تقاطعت دروبنا لنصنع ذكرى لا تُنسى. هو أراد أن يكون جزءاً من قصة رحلتي، وأنا، بتلك الصورة، جعلته بطلاً للحظة خالدة. لقد ذكّرني بأن أجمل ما في الحياة قد يكون تلك اللقاءات العابرة التي لا نتوقعها، والتي تعلمنا أن الإنسان، في جوهره، يبحث دائمًا عن نافذة يطل منها على حياة الآخرين، ليقول ببساطة: “لقد كنتُ هنا”.
في النهاية، ما الذي بقي من ذلك اليوم في آنسي؟ بقيت صورة لفتى مجهول على دراجته، وبقيت ذكرى لقاء لم يدم أكثر من دقيقة. لكن هذه الصورة أصبحت أكثر من مجرد لقطة جميلة، لقد أصبحت رمزاً لقدرتنا على لمس حياة الآخرين، وقدرتهم على لمس حياتنا، حتى في أكثر اللحظات عشوائية. ربما نسي ذلك الفتى ماحدث، وربما نسيت أنا ملامحه الدقيقة مع مرور الزمن، لكن الأثر الذي تركه هذا اللقاء سيظل حياً، يذكرني دائماً بأن قيمة الحياة لا تقاس بطول الأيام، بل بعمق اللحظات التي نتبادل فيها الإنسانية مع عابري السبيل.
لم يبق من ذلك اليوم ١٤ اغسطس ٢٠١٦م إلا صورة، وذكرى، وهذا المقال.




خديجة
الله الله جميلة هذي القصة بجمال
الأدبية الأستاذة / ثريا بمدينة العشاق والجمال الحقيقي لمدينة أنسي كم انتي مبدعة 🌟🌟🌟🌟🌟
واااو وابداع التصور والكتابه اللي عشت بين سطورها رحت لفرنسا ورجعت حتى رائحة الجبن وكمان الولد اللي طلب التصوير واتخيلك وانت تصوريه كلامك له اثر اصلاً في حياتي وحياة بناتي ففعلاً الاثر يبقى حي في الذاكره
بقيت الصورة، وبقيت الذكرى، وبقي هذا المقال… شهادة على أن الإنسانية يمكن أن تُصنع من لحظة واحدة، وأن القلب وحده يعرف كيف يحتفظ بما يستحق البقاء…ابدعتي 🤍
حسن الشهومي
إلى صاحبة القلم الذي ينبض بالحياة.. لقد لامست حروفك شغاف قلبي. لديكِ قدرة مذهلة على تحويل موقف عابر وبسيط إلى فلسفة وجودية عميقة تهز الوجدان. شكراً لأنكِ تملكين عيناً ترى الجمال المختبئ في التفاصيل، وقلباً يشعر بعمق المعاني الإنسانية. مقال رائع كروعة روحك