“نوف ” نافذة على ودّ الآباء



لم تكن تلك الأمسية مجرد عزيمة عشاء؛ كانت مسرحًا هادئًا يستعد لعودة شيءٍ من الماضي دون أن يخبر أحدًا. جلستُ بين صديقاتي، أشاركهن الأحاديث الخفيفة، حين مالت إحداهن إليّ وهمست:
“ترين تلك الجالسة في الجهة المقابلة؟ إنها نوف… ابنة صديق والدك.” توقفت ابتسامتي، وتوقف معه شيء في داخلي.
كأن الهواء امتلأ فجأة برائحة لا يعرفها إلا القلب… رائحة اسم أبي حين يُقال على غير توقع.

رفعت نظري نحوها. كانت تجلس ببساطة، بشيء يشبه الصمت الهادئ، دون أن تدري أنها تحمل معي ميراث ودّ قديم، وأنها بالنسبة لي ليست مجرد فتاة في مجلس مزدحم، بل امتداد ليدين كانتا تتصافحان قبل سنين طويلة… يد أبي، ويد أبيها.

نهضتُ من مكاني، وكنتُ أشعر أن خطواتي لا تخصني وحدي؛ كأن أبي يرافقني بظلّه، ويعيد ترتيب ملامح الزمن حولي.

اقتربتُ منها، وعندما عرّفتها بنفسي، رأيت الدموع تسبق الكلمات في عينيها، دموعٌ ليست بكاء… بل انكشاف، وحنين، واعترافٌ صامت بأن الله يجبر القلوب بطرق لا نفهمها إلا حين نقف في منتصفها، كانت دمعتها تقول لي ما لم تقله شفاهها:
“قد جبرني الله بكِ… فقد جئتِ تحملين ذكرى أبي كما أحمل أنا ذكرى أبيك.” وأنا، في داخلي، كنت أردد العبارة نفسها دون صوت ، جلستُ بجانبها للحظات، لكن تلك اللحظات كانت أطول من المسافة بين رحيل الآباء وامتداد الأبناء ، شعرتُ وكأننا نكمّل حديثًا بدأ قبل أعوام، حديثًا بدأه رجلان كانا يعرفان معنى الرفقة، ومعنى أن يُترك للأيام إرثٌ من المحبة لا ينطفئ برحيلهم.

لقد فهمتُ حينها أن الآباء لا يغادروننا تمامًا؛ يبقى منهم أثرٌ في الناس، وصدى في الأبناء، وودٌّ يتنفس بيننا دون أن نشعر.
نوف كانت نافذة على زمنٍ عرف فيه أبي الصداقة، وأنا كنت بالنسبة لها نافذة على الأب الذي ما زال حيًا في الدعاء والرائحة والدمعة ، تلاقت نظراتنا كما يتلاقى شخصان وجدا فجأة قطعة مفقودة من قلبيهما ، كأننا نكمل البرّ عنهما، نردّ جميل محبتهم، ونحمل عنهما ما تركوه من ضوءٍ بين الناس.

ذلك اللقاء لم يكن صدفة، ولم يكن مجرد قصة تُروى؛ كان رسالة.
رسالة تقول:
إن الودّ الذي زرعوه لا يزال ينبت، وإن رحمة الله قد تأتيك على هيئة ابنة صديقٍ قديم، تجلس في الجهة المقابلة دون أن تعلم أنها تحمل علاجًا صغيرًا لوجعٍ كبير.

خرجتُ من تلك الأمسية وأنا أشعر أن أبي مرّ من هناك، ربت على قلبي، ثم مضى… تاركًا لي أختًا جديدة اسمها نوف ، أختًا جاءت لتكمل ما بدأه الآباء، ولتقول لي ولها:
إن المحبة القديمة لا تموت… بل تعود إلينا بأشكال أجمل مما نتوقع

نوف لم تكن فتاةً عابرة، كانت بابًا فتحه الله لي، وقال من خلاله:
“هذا جبرٌ من السماء ، وهذه وصلة من ودّ الآباء، هناك، في تلك الدقائق، لم نكن نوف وأنا ، كنّا بنتين لذكرى واحدة، لعمرَيْن من البر، لظلّين كبيرين ما زالا يداوياننا حتى بعد الغياب.