حنين يوقظ الذاكرة



ليس الحنين دائمًا بكاءً على ما مضى، ولا ضعفًا أمام الذكريات، كما يُصوَّر غالبًا. في كثير من الأحيان، يكون الحنين حالة امتلاء داخلي، وشعورًا خفيًا بالأمان، وذاكرةً حيّة تعيد ترتيب القلب كلما اختلّ إيقاع الحياة. هو ليس فقدًا بقدر ما هو أثرٌ مستمر، يثبت أن بعض الأشخاص لا يغيبون حين يبتعدون، ولا ينتهون حين تفصلنا عنهم المسافات.

فالحنين الحقيقي لا ينبع من جمال الأيام وحدها، بل من جمال الأشخاص الذين كانوا قادرين على تهذيب قسوة الواقع. أولئك الذين امتلكوا موهبة نادرة في تخفيف الضجيج، وصناعة الطمأنينة، وبثّ السكينة في أكثر اللحظات قسوة. وجودهم لم يكن إضافة عابرة للحياة، بل كان توازنًا نفسيًا يجعل الخوف أقل، والعالم أوسع، والاحتمال ممكنًا.

ومن هنا نفهم أن القرب لا يُقاس بالمسافة، بل بالإحساس. فهناك أشخاص تسكنهم الروح بلا مقدمات، وتألفهم دون شروط، وتطمئن إليهم كما لو أنهم جزء من تكوينها. وإذا غابوا، لا يتركون فراغًا يُملأ، بل عمقًا يُفتقد. يظل أثرهم حاضرًا في الذاكرة، وفي التفاصيل الصغيرة، وفي لحظات الصمت التي نحتاج فيها إلى سند غير مرئي.

الحنين في صورته الناضجة ليس ألمًا دائمًا، بل قد يكون ناعمًا كنسيم الفجر، خفيفًا كالضياء، يأتي ليذكّرنا بأن العمر مرّ بلحظات صادقة لا يمكن نسيانها. هو رسالة داخلية تقول لنا إننا لم نكن وحدنا يومًا، وإن هناك من أضاف للحياة معنى، لا مجرد وقت.

وفي زحمة الوجوه والعلاقات العابرة، يبقى الحنين علامة فارقة تميّز الأشخاص الذين لم يكونوا عابرين في حياتنا، بل كانوا ملاذًا للروح واستراحة لقلبٍ أرهقته المواجهة. فبعض البشر لا يضيفون أيامًا إلى أعمارنا، بل يضيفون حياةً حقيقية لأيامنا.

وحين يصبح الغياب جزءًا من الحضور، ندرك أن الإنسان لا يُختصر في جسده، بل في أثره. وأن الذكريات ليست ماضٍ نعود إليه، بل طاقة نستند عليها حين تضعف خطواتنا. فالحنين، في جوهره، ليس اختيارًا، بل استجابة قلبية صادقة، وارتعاش خفيف يوقظ الذاكرة كلما مرّ اسمٌ أحببناه، وعرفناه في أعماقنا أكثر مما عرفناه في الواقع.

إنه ذلك الشعور الذي يجعلنا نصافح وجوهًا كثيرة، لكن القلب لا يُبصر إلا وجهًا واحدًا غائبًا ، وجهًا ما زال يسكن الذاكرة، ويذكّرنا بأن بعض الحضور لا يرحل أبدًا، حتى وإن غاب عن المكان .