الدكتورة حصة المفرّح في مواجهة وعي النص وروحه
في زمنٍ تتسارع فيه النظريات وتتشابك فيه الأسئلة حول الإنسان والوعي والهوية يظل هناك صوتٌ قادر على أن يعيد ترتيب المشهد، وأن يفتح بابًا جديدًا للفكر، لا يطرقه إلا من يحمل رؤية، ويمتلك أدوات القراءة العميقة.
إنها الدكتورة حصة المفرّح الاسم الذي أصبح مرجعًا في النقد السردي، وواحة فكرية تعبر بالمتلقي من حدود النص إلى فضاءات ما وراءه. باحثة لا تكتفي بتفكيك البنية، بل تُعيد بناء الوعي، وتضع القارئ أمام مرآته، وتدفعه للتساؤل قبل أن يأخذ موقفًا أو يبني تصورًا.
من مكاتب جامعة الملك سعود إلى ندوات الخليج ومؤتمراته، ومن البحوث الأكاديمية الدقيقة إلى القراءات
السيميائية التي تفتح الأبواب الموصدة خطّت المفرّح مسارًا علميًا لا يشبه إلا نُضجها، واشتغلت على قضايا تتجاوز النص لتصل إلى الإنسان نفسه.
اليوم نقف معها في لقاءٍ نقترب فيه من العقل الذي يقرأ العالم بحسّ ناقد، وروحٍ تؤمن أن الأدب ليس حكاية تُروى، بل سؤالًا ينحت وعينا ويعيد تشكيل علاقتنا بالوجود.
هذا اللقاء ليس مجرد حوار… بل رحلة إلى عمق الباحثة التي صنعت من النقد مشروعًا، ومن المعرفة مسؤولية، ومن حضورها بصمة يصعب تجاوزها.
بدايةً… من أين تنطلق الدكتورة حصة المفرّح حين تقرأ نصًا سرديًا؟ من الفكرة أم من البنية أم من الإنسان الذي خلف السرد؟
حين أقرأ نصًا سرديًا لا أنطلق من نقطة واحدة ثابتة، أنطلق من الإحساس بأن هناك صوتًا ما يطلب أن يُسمع، كاتبًا يواجه سؤالًا، أو قلقًا، أو رغبة في الفهم. وهذا الإنسان يتشكل في اختياراته اللغوية، وطريقته في بناء الشخصيات، وما يصمت عنه، وما يصرح به. وبعدها، يكون النظر إلى البنية بوصفها الإطار الذي شكل هذا الصوت، كيف رتب الزمن، ووزع وجهات النظر؟ لماذا هذا الشكل دون غيره؟
أما الفكرة، فأنظر إليها بوصفها أثرًا يتكشف تدريجيًا.
في أبحاثك وورش عملك، تتكرر فكرة “الوعي” داخل النص وخارجه… كيف تصفين العلاقة بين القارئ والنص بوصفها علاقة يتشارك فيها الطرفان خلق المعنى؟
أظن أن العلاقة بين القارئ والنص علاقة تشارك واعٍ في إنتاج المعنى؛ فالنص السردي يحمل وعيًا خاصًا به، وعيًا بنظرته إلى العالم، وبتنظيم التجربة، وفي الفراغات التي يتركها بقصد أو بدونه، كما أن القارئ يأتي إلى النص محملًا بخبرته، وذاكرته، وأفق توقعاته، وعندها يحمل وعيًا يوظفه داخل النص؛ فيملأ الفراغات، ويعيد ترتيب التجربة، ومعها يتحول إلى شريك فعلي، ومن هذه الشراكة يتشكل المعنى المتجدد.
مشروعك البحثي يقترب كثيرًا من السيميائيات… ما الذي يجعل هذا الحقل مناسبًا للقراءة الحديثة في الرواية العربية؟
من وجهة نظري، النصوص الأدبية التي تُقرأ هي التي تحدد مسار القراءة والمنهج النقدي المناسب لها، لكن ملاحظتك مهمة حول اهتمامي بالسيميائية التي أراها ذات أطر مفاهيمية واضحة، وهي تعيد تشكيل الواقع بالعلامات، وتستدعي قارئًا واعيًا لإتمام تفسير هذه العلامات، كما تستوعب التعدد الدلالي، هذا مع تنوع مداخلها واتجاهاتها، حين تتيح ربط النص بسياقه الثقافي( السيميائية الثقافية) أو بالداخل( سيميائية الأهواء) وهكذا.
كيف ترين مستقبل النقد العربي في ظل التطور التقني الهائل، وتحوّل شكل القراءة وانفتاحها على وسائط متعددة؟
النقد عمومًا والعربي خاصة في ظل هذه التطورات التي تتحدث عنها لن يقف متفرجًا فحسب، بل سيسعى إلى المواكبة، حين يتحول النص الورقي على سبيل المثال إلى نص متعدد الوسائط، تصبح القراءة النقدية -من المنظور نفسه- تجربة تفاعلية، دون التفريط في عمق الدلالات، مع قراءة هذا التقاطع بين الأدب، والتقنية، والتحولات بينهما. وقد بدأنا هذه المرحلة منذ مدة، لكن من المهم أن نتحدث اليوم عن ما بعد الرقمية حين ندخل إلى الخوارزميات الذكية.
رواية «الرحلة رقم 370» فتحت لك بوابة للحديث عن ما بعد الإنسانية… كيف تشرحين هذا المفهوم للقارئ العادي بعيدًا عن المصطلحات الأكاديمية؟
ما بعد الإنسانية يمكن تبسيطها بالفكرة هنا قبل النظر إلى المصطلح؛ فهي سؤال عن ماذا يبقى من الإنسان حين تتغير حدوده؟ وكيف لا يكون الإنسان مركزًا، وقد اعتدنا أن يكون كذلك؟ حين تتشارك معه عوالم أخرى قد تكون طبيعية، أو تقنية، أو ذكية متطورة.
هل فقد النص العربي اليوم قُدرته على صدم القارئ؟ أم أن القارئ هو الذي تغيّر وأصبح أكثر مطالبة بالنص المركّب؟
من وجهة نظري، ونحن نتحدث عن تحول العلاقة بين النص والقارئ، لن نؤكد بالضرورة على أن النص العربي اليوم فقد قدرته على تحقيق الصدمة! وعن أي صدمة نتحدث؟ هل هي مخالفة أفق التوقع؟ أم الجديد المختلف الذي يبهر القارئ ويجعله شغوفًا بالقراءة أكثر؟ وأظن أن الرهان الحقيقي على القارئ لأننا لا يمكن أن نقيد النص الأدبي، ونضع أطره مسبقًا، لذا فقدان الدهشة يأتي ربما لأن القارئ قد يكون تغير بعد أن تراكمت خبراته السردية والبصرية، وأصبح يترقب شيئًا مختلفًا كل مرة في نص يربك، ويعيد طرح الأسئلة، وهنا تستعيد الكتابة قدرتها على صناعة الدهشة.
بين تدريس الأدب والبحث الأكاديمي… أين تجد حصة المفرّح ذاتها أكثر؟ وفي أي المساحتين يتحقق شغفك؟
أجد نفسي في المساحة التي يتقاطع فيها التدريس والبحث العلمي لا في أحدهما، وإن كانت كفة البحث العلمي ترجح، لكن التدريس يمنحني لحظة الاكتشاف الحي، والقرب الإنساني قبل العلمي، والحوار المباشر، ويحمل معنى المشاركة، وانتقال الشغف مني إلى وعي الآخرين. أما البحث العلمي فيدربني أكثر على العمق، والتأني، والمسافة الضرورية للتفكير المنهجي، وبناء الأسئلة، والبحث عن إجاباتها. الفرق بينهما عندي ليس بقدر الشغف، بل في الإيقاع، وطبيعة المتعة الفكرية أكثر.
هل هناك نص أو رواية شكّلت منعطفًا في رؤيتك النقدية؟ ولماذا؟
ليس هناك نص واحد يمكن أن أعزله عن تجربتي لأصفه بالمنعطف؛ فقد مررت بتجربة قراءة تراكمية، جعلتني أعيد النظر في أدواتي وأسئلتي النقدية، ثم إن النقد عندي فعل إصغاء طويل للنص، لا محاكمة له، ومساحة لفهم تعقيد التجربة الإنسانية أكثر من تصنيف الأعمال الأدبية أو المفاضلة بينها.
كأستاذة جامعية… ما التحدي الأكبر الذي يواجهه الطالب اليوم في فهم النصوص الحديثة؟
يتمثل التحدي الأكبر في تدريس النقد اليوم في انتقال الطالب من البحث عن المعنى الجاهز، والمنهج المناسب إلى فهم القراءة بوصفها عملية تفكير مفتوحة. ويزداد هذا التحدي مع تشعب النظريات النقدية، ودقة أدواتها التي قد تقدم بوصفها مصطلحات متراكمة لا استجابات لأسئلة معرفية محددة؛ مما يربك الطالب بدل أن يرشده. ومن وجهة نظري، الحاجة ملحة إلى أن يكون جوهر التدريس هو بناء وعي نقدي يغير عادات القراءة، ويعلم اختيار الأدوات حسب النص، والسؤال، لا استهلاكها بوصفها وصفات جاهزة فحسب.
إذا منحناك فرصة لتوجيه رسالة للكتّاب الشباب… ماذا تقولين لهم بعيدًا عن المجاملة؟
مع أني لا أفضل أن أكون وصية على الكاتب والمكتوب، لكني سأقول ما ينسجم مع واقع أدبي نعيشه، ولا بأس أن نعبر عنه: الكتابة ليست وعدًا بالظهور الحقيقي، ولا طريقًا سريعًا للاعتراف بالحضور، بل مسؤولية معرفية وجمالية، والموهبة وحدها لا تكفي دون قراءة، والتقانات الفنية وحدها لا تصنع كتابة حية، والموضوع وحده لا يكفي لأنه لن يتحول تلقائيًا إلى كتابة جيدة؛ فما يصنع الفارق هو الصبر على الكتابة، والقراءة العميقة، والقدرة على الشك في النص قبل الدفاع عنه، ومن الشك يصل إلى تقويمه.
كيف تصفين علاقتك الشخصية بالكتابة؟
يمكن أن أصف علاقتي بالكتابة بوصفها علاقة معيشة لا ممارسة عابرة. أفضلها في وجهيها الإبداعي والنقدي لأنها تمنحني لغتين للتفكير: واحدة تنقل، والأخرى تفكك ما ينقل، وتعيد تأمله. كما أني أكتب بخط اليد كثيرًا، وهو ليس حنينًا بقدر ما هو إيقاع خاص؛ طريقة لنضج الفكرة على مهل، واختبارها قبل أن تستقر، وكأن العلاقة مع الكتابة تفترض هذا القرب الجسدي بقدر ما تقوم على الوعي بها. والكتابة عندي ليست أداة تعبير فحسب، بل مساحة تفكير، أعود إليها في كل مرة لا لأقول ما أعرف، بل لأكتشف ما لم يكن واضحًا بعد
هل تعتقدين أن النقد قادر على تغيير وعي المجتمع، أم أنه يمارس دوره داخل دائرة النخبة فقط؟
النقد في صورته العميقة، قادر على التأثير في وعي المجتمع، لكنه لا يغير المجتمع بخطاب إعلاني، أو موقف أخلاقي، بل يعمل على إعادة صياغة الأسئلة التي يتداولها الخطاب الثقافي العام. لكن ربما لأن النقد كثيرًا ما ينتج ويتداول في الفضاءات الأكاديمية ينظر إليه من جهة النخبوية، غير أن ذلك لا يلغي أثره؛ فالأفكار النقدية، وممارسات القراءة المتنوعة تتسرب تدريجيًا لتترك أثرها على الأوساط العامة أيضًا. ونراهن هنا على جودة النقد، وبراعة الناقد بلا شك.
وفي الختام كلمة تختمين بها هذا اللقاء ؟
في الختام، أعود لتأكيد أن الأسئلة هي ما يبقي الفكر حيًا، والقراءة هي تدريب دائم على عدم الاكتفاء بالإجابات الجاهزة. ما نحتاجه اليوم، هو وعي أعمق بطريقة تفكيرنا في النصوص، والعالم ، شكرًا لإتاحة هذه المساحة للحوار .
ختاماً حين تنتهي الأسئلة تبدأ الدكتورة حصة المفرّح، فهي من ذلك النوع من المفكرين الذين لا يجيبون ليكملوا الحوار، بل ليعيدوا تشكيله، ومن يقترب من عالمها يدرك أن النقد ليس أداة لقراءة النصوص فقط، بل وسيلة لقراءة الإنسان، وفهم التاريخ، وصياغة المستقبل.
لقد أخذتنا المفرّح في هذا اللقاء إلى عمقٍ لا تصل إليه الأسئلة بسهولة وفتحت لنا نافذة على الوعي الذي يسكن ما بين السطور ، ومثل كل الأصوات الكبيرة تركت أثرًا لا ينطفئ بانتهاء الحوار، بل يبدأ معه.



