فاقد الشيء ..يشتاق إليه
بقلم : نسيبه علاوي
فقدَ أباه على صِغرْ..لمْ يكن فقد موت بل كان فقدَ غربة..وحين مضت السنون .. و أصبح رجلًا على مشارف الخمسين ..و جمعهما مكانٌ واحد ،التصق بأبيه على كِبر ..و كبى عند قدميه..لا يكاد يفارقه..و كأنه ارتدَّ ذاك الطفل الصغير ..الذي لم يشبع حنانًا و أمانًا من أبيه!
و تلك المرأة الناضجة..الواقفةعلى أعتاب الثلاثين ..قد أكملت حياتها زواجًا و أمومة ..و لكنَّ جزءًا منها كان مفقودًا ..إنه هناك ..مع ذكريات الدراسة ..و المقاعد و الكتب ..لم تُتح لها الحياة أنْ تُكمل -كما صديقاتها -تعليمها ..و ظلَّت فاقدة لذلك الشعور ..حتى استطاعت بعد ذلك العمر أن تنظمَّ للمقاعد من جديد .. ففرقت شعرها لضفيرتين بشرائط ملوَّنة ..و رمتْ نفسها-طفلةً-بين أحضان الكتب!
ينادينا الحنين ..و نشتاق لأشياء كنَّا نظن أنها أبدية..أنهكها التكرار و الرتابة..و مرور الزمن..و لكننا لا نلبث إلا أن تستفيق على دويِّ رحيلها ..تاركة إيَّانا في عمق دهشةٍ تبلغ حدَّ الوجعْ.. ذاهلةً أفكارنا عن مدى ما كان اندماج أرواحنا فيها .. و كيف سُحبت منَّا على حين غرَّة.. فتركتنا تارةً صرعىٰ بالحنين.. و تارةً غرقىٰ بالأنين و بالشجنْ!
نغمض أعيننا على ذكريات العمرْ..صورًا ملونة و صورًا باهتة .. و أخرى ذات صدًى بعيد..كم كانت أعمارنا فيها؟ و ما هو مذاقها؟! بأيّ عينٍ بِتنا الآن نراها ؟! كلّ لحظةٍ ماضيةٍ قريبةٍ كانت أم بعيدة تتوثق أرشيفًا في ذاكرة تتشبث فيها أدق التفاصيل ، عصيّة الوصف و الرواية..هي فقط واقفة في حلق الإحساس كغصّة ..خيالًا تجتر معها أوجاعك ، حلوة أم مُرة جميعها تحولت لوجعٍ ما أن وطأتَ لغم الذكرىٰ..و افتقدتها .
إنها نحن ..في زمن آخر مستفحلٍ في الوراء ..و لا ناجين كُتبوا من هذا الشقاء الأبدي السرمدي ..هي دوامةً إذن..تطُّن في رأسك بلا هوادة ، أنت جسد بروحٍ مهترئة..افتقدتَ زمنًا أو شخصًا أو عادة..أو ربما أنتَ روحٌ افتقدت نفسها ..فما عُدتَ بعد هذه السنين لا بنفس الملامح و لا بنفس الجسد و لا بنفس الروح القديمه..تغيّرتَ و تبدلتَ..و ما زالت روحك تبحث عن نسختك الأولى ..نسختك التي افتقدتها و اشتقت إليها ..لربما.