رسالة من طبيب



بقلم : نسيبة علَّاوي

دفنته بيدي..رحل و لم يُمهل ليُوصي بوصية.. فقد كان في سن أقل من أن يختطفه الموت فيه علىٰ حين غرَّة.. كانت المقبرة خالية تمامًا من المُشيعين إلا مني و من أخيه.. غسلناه و كفناه و جئنا به إلىٰ مرقده الأخير.. تسبقنا دموعنا و حسرتنا عليه..قُدِّر له أن يمرض وحيدًا ..و يُعاني وحيدًا .. و يُدفن وحيدًا.. فهذا زمن الكورونا و هذا ما كُتب عليه ..

كان قد جاءني للمستشفى و الخوف و الرجاء يُؤرجحانه فيما بينهما ..و سنين الطفولة و الصبا تموج في ذاكرته و ذاكرتي..لعبنا و تشاقينا و كبرنا في نفس الأزقة و المدارس و الساحات ..تشاركنا الأفراح و الأتراح معًا..أخذتُ أعتني به يومًا بعد يوم..و الكابوس يكبر في صدره ..و رأسي.. أعود للبيت و أنا أحمله بقلبي مع أعمق الرجاءات بشفاءه ..و أنام و أنا مُدرك لما سيؤول له مصيره ..فأنا خبير بالأجهزة و قراءاتها..فأعجز عن النوم ..و تهبط بي المخاوف إلىٰ حضيض الأرق..لأغفو بعد أمنية خفيَّة بألا أستيقظ مخافة الفاجعة.

انتهى كل شيء ..بعد أن استنفذتُ حيلي و أدعيتي..و أتت إرادة الله فوق إرادة الجميع..و رحل صديقي تاركًا خيبة مُرَّة في مذاق أيامي..و الأفواج تتزايد في العنابر .. و أرقام المرضى آخذة بالصعود..و الضغط و الإرهاق بلغا مبلغهما..
الطواقم نصفها أُصيب..و النصف الآخر أُصيبت عوائلهم ..و الإحباط و اليأس كانا هواء المستشفى و أقسام العناية ..وهناك أيام اتصلت بالليالي..حُرمنا فيها من رؤية و ملامسة أهالينا أزواجنا و أولادنا مخافة أن نُعديهم ..
نفرح بنجاة المريض كفرحنا بميلاد طفل أو رجوع حياة..و نجزع لوفاة الآخر كأنه واحد من أبناءنا..

و نحن في عزِّ العمل .. نعمل و نتفانى و كلنا يقين بأنَّ الناس خارج المستشفى على قدر ثقتنا بوعيهم ..و تقديرهم لظرف الوباء ..و صحتهم و صحة من حولهم..كلنا يقين بحسهم الوطني و الإنساني و هم يرون الجهود ،و ما تبذله الدولة ممثلًا بوزارة الصحة..و ما يقع على الفرد منهم من واجبات تجاه نفسه و أهله و وطنه ..حتى لا تقع المأساة.