بكاء السكون ..
بقلم | نُسيبه علَّاوي
“لا يوجد إنسان لم يتمنَّ-لا شعوريًا علىٰ الأقل- موتَ إنسان آخر .
كل واحدٍ يجرُّ وراءه مقبرة أصدقاء و أعداء”
الفيلسوف إميل سيوران .
غالبًا ما نسمع كلماتٍ من صغيرٍ مقهور يتمنى الموت فيها لأحدٍ من أصدقائه أو أقربائه لأنه لم يستطع دفع أذاهم عن نفسه ، فاندفعت هذه الأمنية الشريرة من كل قلبه إلى لسانه ليُقابل بكَمٍ من الإستهجان و التوبيخ عليها أو لربما بسيلٍ من الضحكات المُتعجبة من جرَّاءةِ هذا الصغير .
حين كبرنا لم نعد نستطيع الإفصاح عن مشاعر أحرقتنا بهذه البساطة و الجراءة فقد هُذِّبنا منذ الصغر -ترهيبًا أو ترغيبًا- و ترسَّخ في أنفسنا عيب البوح وعيب الشعور وعيب الجراءة، و ربما نحن نحِّنُ كثيرًا للطفولة لمعانٍ كثيرة قد خلعناها علىٰ أعتابها من غير رجعة فقد كانت أنفسنا مُحلِّقةً خفيفةً شفافة تستجلب دهشات الكبار و حنقهم أيضًا .
اليوم أرواحنا مقيدةً بأصفادٍ أغلبها موهومة قضينا العمر في البحث عن معنًى لكل شيء ثم إذا بنا نهرب من كل شيءٍ عرفنا معناه !
نتخفف من كل ما قيَّدنا به أرواحنا على حين جهلٍ و كنا نظنه علمًا لازمًا.
فنحن نبتلع الحقيقة و نلفظ المجاملات ..
نؤمِّن على الدعاء في العلانية و نكفر به في السر ..
نضحكُ عاليًا لنُخفي ضجيج الحزن في دواخلنا..
ننكر التعب و كل ما فينا يئن ..
يدب الحقد فينا فنلقمه بالوصايا و الأثر ..
نُهذب إنسانيتنا البدائية بمقص الدين و العادات و التقاليد لننجو من طوفان الأحاسيس من لُجّّة الأفكار نأخذ في السفينة معنا كل ما يبرق و يلمع كل ما هو حيٌّ و مُلفت و فاتن و نترك جثث الحقيقة منها ما يطفو و منها ما يغرق عميقًا في اللاشعور فلا أحد على السفينة يريد قبحًا و مرارة حتى لو كانت الحقيقة و الكل يريد فقط الشيء الذي يُرضي أوهامه و آماله!!
و إن كنتَ تعترض على هذا -عزيزي القارئ- ففي إمكانك حين ترسو علىٰ شاطئ العزلة أن تواجه نفسك بكل أريحية فأنتَ بالتأكيد لم تدع الحقائق تموت أنتَ فقط خبأتها بين طيات نفسك لتواجهها ذات فواق حين تكون لم تعد قادرًٍا أكثر على كل هذا الرياء و حين تكون عيناك قد اعتادت على البريق حتى قاربت العمىٰ و لجأت أخيرًا إلى العتمة و السكون لتُصيخَ السمع لصوتِ الجثث و هو يُبعث من جديدْ!! .