ولو كان صغيراً



ما بين مشاغل الحياة ، بين العمل والأمل ، والنجاح والفشل ، ومحاولة الوصول لشيءٍ لم يبلغه أحد، خارجاً عن المألوف، لمستوى تعجز عن وصفه الحروف ، وصلت إلى مكانٍ عرفته ولكن لم أصله منذ زمن بعيد، كالذي يصعد قمة جبلٍ ليرى ما وراءه ،وعندما يقترب من القمة ويكون غالباً في أشد التعب ، متسارع الأنفاس ، دقات قلبه أكبر دليل ، وعرق جبينه ليس بقليل، يشعر بالهواء يزداد سرعة عند قدومه من المجهول من وراء الجبل.

وعند امتداد النظر في الأفق يعجب مما يرى ويعود سجل الذكريات بعبق الماضي ، أجمل الذكرى هي التصرف البريء في ذلك الماضي الجميل، رحم الله وَالِدَيَّ كان الماضي جميلاً بهما، وكان الناس لطفاء لا أدري لماذا؟

ذات يوم وأنا بعمر العاشرة _إن لم أكن مخطئاً _وكنت في السوق بإحدى المحافظات القريبة من منزلنا للتسوق مع والدي وإخوتي ، وذلك بعد العصر وربما قبل الغروب، حاولت قطع طريق صغير ، للحصول على وجبة طعام بدت في عينيّ شهية ، من الجانب الآخر
للطريق ،وكنت قد جمعت القليل من الحلوى في يدي من البقالة ، قطعت ذلك الطريق وإذا بي أطير! ! ! ! نعم أطير ولكن السبب أن سيارةً – ولله الحمد لم تكن مسرعة جداً – صدمتني! ! ! !

تجمع المارة وأهل السوق جميعاً ، وكانت المفاجأة حينما استيقظت مستلقياً على ظهري ، والناس مجتمعون حولي ، حملني والدي رحمه الله للمستشفى الذي كان على بعد مئات الأمتار من موقع الحادث، وقاموا بعمل الإشاعة، وفحص الأنفاس بالسماعة ،وصوت القلب وأوضاعه ،والبحث عن أي جرحٍ في تلك الساعة، وتطمئن والدي رحمه الله أنني بخير وجلست على ذلك السرير والكلُّ يسألني إن كنت أعرفه، وعن عدد أصابعه المفتوحة والمغلقة، وأجيب هذا وهذاك وكأنني في حلم ، وحينها ظهر من وسط الزحام ذلك الرجل الغريب ، وأظن أنه من أهل الصعيد، وقال لي تفضل! ! !.

في يده أربع قطع حلوى قد جمعها من حطام حادثي من الطريق ،وأتى للمستشفى لإحضارها إليّ ،وإعادة الحقوق لأصحابها ، ولكنني لم أشكره! ! ! ! بل سألته عن الحلوى الخامسة أين هي؟ ؟ ؟

لا أريد التعليق عن مدى تعجبه واتساع حدقة عينة من ردة فعلي ثم ابتسامته.

ولكنني أخيراً قلت في نفسي أربعًا أفضل من لا شيء، فكم نفس الطفل بريئة وكم قلب هذا الرجل أطيب! ! !.

كلما مرت ذكرى ذلك الموقف أدعو لوالدي بالرحمة ،وأضحك من ذلك الموقف ،وأتذكر ذلك الرجل وأريد أن أشكره واعتذر منه، وكم أشعر بأن الناس كانوا لطفاء ، وإلا ما الذي دفعه للذهاب للمستشفى ،وإحضار ما لا تتعدى قيمته ريالاً واحداً آنذاك، وانتظاري لمدةٍ تعدت الساعة خلال إجراء الفحوصات.

عمل الخير ولو كان صغيراً يُبقي أثراً طيباً في النفوس وإن طال الزمن، هذه طفولتنا وزمننا الجميل فماذا عنكم؟ .