مَجْدٌ يُنفقُ نفسَه .. رحلة العطاء في وجدان العرب
د. علي بن عالي
في تراث العرب فلسفةٌ خالدةٌ للعطاء، تتجاوز حدود المعاملة والمكافأة إلى كونها ممارسةً روحيةً ورمزية تُشيّد مكانة المعطي كما ترفع قدر الآخذ، ولعلّ أول ما يُستفتح به هذا الباب عطاء النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن زهير حينما أنشده قصيدته الشهيرة بانت سعاد؛ ذلك الموقف الذي بدا للسامعين فعلاً عربيًّا أصيلًا، يُماثل ما عرفه العرب من تكريم الشعراء ومنحهم ما يليق بمكانتهم، فإهداء النبي صلى الله عليه وسلم بُردته لكعب لم يكن مجرد جزاء؛ بل كان اعترافًا بسلطان الكلمة، وإقرارًا بأن الشعر في الوجدان العربي أداة بناء وتثبيت، وأن العطاء له فلسفته التي تتوافق مع هذا الجنس العربي الذي يرى في الكرم بابًا للسيادة، وفي السخاء طريقًا لتوثيق الهوية وإشاعة الهيبة بين الأقوام.
ومنذ ذلك المشهد المؤسس، ظل العطاء العربي يتخذ هيئةً تجمع بين النُّبل السياسي والذوق الثقافي، فالأمراء والخلفاء والوزراء عبر العصور، من صدر الإسلام إلى الدولة الأموية فالعباسية ثم الأندلس ودويلات الشرق والغرب، لم يروا في منح الشعراء وأصحاب الفكر مجرّد برٍّ أو نفقة، بل رأوا فيه استثمارًا في الذاكرة الجمعية، وتحصينًا للمُلك، وتوسيعًا لرقعة المجد، وهكذا أصبح الشاعر شريكًا في صناعة الصورة العامّة، والكلمة الصادقة أو المبدعة جزءًا من جهاز الدولة الروحي، فالعطاء هوية عربية منذ عهد الجاهليين، الذين مدحوا النعمان بن المنذر وغيره، فنالوا عطاياهم، ووجدوا من الاحتفاء والإنعام ما يشد عزمهم على أداء رسالة إبداعهم وتسخيره، وتبتت رؤية العطاء كتقليد إسلامي منذ موقف النبي مع كعب بن زهير الذي جاءه مادحًا معتذرًا بعد أن أهدر دمه.
ولم يكن العطاء دنيويًا خالصًا؛ بل كان يحمل في طياته فلسفة أخلاقية تُعلي قيمة الإنسان الموهوب وتدفعه إلى مواصلة عطائه الفكري، فحين أغدق الخلفاء الراشدون على الكتّاب والفقهاء، كانوا يدركون أن الأمة لا تنهض بالسيف وحده؛ بل بالقلم الذي يحفظ التجربة، ويهذب الذائقة، ويُقوّم المسار. ثم جاء الأمويون فجعلوا للشعر ديوانًا يُحفظ فيه تاريخ الدولة، وكان عطاء الخلفاء للشعراء من أمثال الأخطل والفرزدق وجرير ترجمةً لحاجة الحكم إلى صوتٍ يصدُّ عنه الخصوم ويُثبّت مكانته في نفوس العرب.
وبلغت فلسفة العطاء ذروتها في العصر العباسي، حين أضحى البلاط مركز إشعاع فكري، وحين تبوأ الوزراء والأمراء دورًا محوريًا في رعاية العلماء والفلاسفة والمترجمين، ولم يكن عطاء البرامكة على سبيل المثال إلا صورة لانفتاح عربي فارسي مشترك على معنى الحضارة، فقد كانوا يدركون أن دعم المبدعين ليس إكرامًا لأشخاص، بل إكرامٌ للمعرفة، وأن رفد العقول يُنشئ أمة تستحق أن تقود، ولهذا رأينا الخلفاء يجزلون العطاء للمتنبي، والوزراء يفتحون خزائنهم لأبي تمام والبحتري، ويُقيمون المناظرات ويُنشئون دور العلم، في وحدةٍ نادرة بين سلطة المادة وسلطة الفكر.
وفي الأندلس، ظلّ العطاء جزءًا من هوية الحكم، فكان ملوك الطوائف يتنافسون في تقريب الشعراء، حتى غدا الشعر مظهرًا من مظاهر الثراء السياسي، ووسيلة لتجميل الواقع وتخليد أسماء الحكّام في الوجدان، ومع ذلك، فقد ظل العطاء مشبعًا بأفقٍ فلسفي يرى في الإحسان ركنًا من أركان الفروسية العربية، حيث يُمنح الشاعر لا ليُقيَّد، بل ليُطْلَق صوته في فضاء الإبداع.
وهكذا، عبر عصور العرب كلّها، ظل العطاء فعلًا يتجاوز المصلحة الضيقة إلى قيمة إنسانية عليا؛ فعلًا يجمع بين الكبرياء والرحمة، بين السياسة والثقافة، بين حاجة الدولة إلى الصدى وحاجة المبدع إلى السند، وهو في جوهره تقليد عربي قديم، تحكمه الحكمة كما يحكمه السخاء، وتغذّيه رغبة العرب في أن يكونوا أهل مجدٍ لا يكتمل إلا بوجود من يروي سيرتهم ويخلّد أثرهم.
إن فلسفة العطاء لدى العرب ليست مجرد صفحات في التاريخ؛ بل هي شهادة على أن الثقافة لا تزدهر إلا إذا حملها حاكم كريم أو وزير بصير أو أمير يعرف أن المجد لا يكتبه إلا قلم حرّ، وأن العطاء كما قال القدماء هو أول طريق الخلود.



