حَنا بخير ..
بقلم : د.سعد العريفي
“عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود”
حَنا بخير.. مهما كان عدد حالات المصابين بالكورونا التي نسمع بها يوميًا حَنا بخير، حنا بخير مقارنةً بما مر على العرب والمسلمين قديمًا من الأوبئة، والطواعين، والأمراض الفتاكة، التي أهلكت عشرات الآلاف منهم.
لقد تتبعت في جولة طويلة جدًا الأوبئة والطواعين التي فتكت بالعرب والمسلمين على امتداد الأربعة عشر قرنًا الهجرية الماضية، الحقيقة وجدت أهوال، وجدت فظائع، وجدت طوام كبرى.. كانت رحلة يملؤها الموت.. وقد انتهيت منها بثلاث نتائج:
الأولى: إنهُ لم يسلم قرن من قرون البشرية كلها من الأوبئة والأمراض المعدية التي أفنت البشر.
النتيجة الثانية: أن هذا القرن الذي نعيش فيه، هو أسلم القرون، وأصفاها، وأفضلها، وأنقاها من حيث السلامة من الأمراض.
أما النتيجة الأخيرة: فهي أن فيروس كورونا الذي يعيش بيننا اليوم، هو فيروس خفيف مقارنةً بتلك الفيروسات التي أفنت البشر في الزمن القديم.
دعوني أتتبع معكم الآن تلك الفيروسات والأوبئة التي حلت بالعرب.
ابدأ بالقرن الأول الهجري: القرن الأول الهجري هو خير القرون، وقد قال عنه النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((خير القرون قرني))، القرن الأول الهجري عاش فيه النبي-صلى الله عليه وسلم-، عاش فيه أفاضل الصحابة، عاش فيه المبشرون بالجنة، ومع ذلك فتكت بالعرب والمسلمين فيه عشرة أوبئة أفنت عشرات الآلاف منهم، أشهرها [طاعون عمواس].
طاعون عمواس كان في زمن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- في الشام في السنة الثامنة عشرة من الهجرة، قتل خمسة وعشرين ألفاً من الصحابة وغيرهم من المسلمين، وأبرز من مات بسببه أمير جيش المسلمين في الشام أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل.
وبعد هذا الطاعون حل بالعرب طاعون آخر أكثر دمارًا، سموه طاعون [الجارف] كان في سنة تسع وستين من الهجرة، سموه [الجارف] تشبيهًا لهُ بالسيل الذي يجرف البشر معه، فقد كان يجرف أرواح الناس ويقضي عليهم، حتى إن الناس عجزوا عن دفن موتاهم، فارتفعت رائحة الجثث، وفنيت النعوش والأكفان.. لقد كان طاعونًا مدمرًا، كان يموت بسببه في كل يوم سبعين ألف نفس.
أما القرن الثاني من الهجرة: فقد عصفت بالعرب والمسلمين فيه تسعة أوبئة.
وفي القرن الثالث: أفنت الناس أربعة أوبئة.
وفي القرن الرابع: حلت بهم خمسة أوبئة رافقها جوع شديد، حتى أكل الناس القطط، والكلاب، والأطفال.
أما القرن الخامس الهجري: فكان من أشد القرون التي مرت على العرب والمسلمين، كان فيه أوبئة فتاكة جدًا، وحتى أقرب لكم الصورة، أقول: قبل ألف سنة من تاريخنا اليوم، عصفت بالعرب أوبئة فتاكة جدًا، كان يموت في كل يوم عشرين ألف نفس، هذا عدد الموتي وليس عدد المصابين.
في تلك الأثناء عجز الناس عن دفن موتاهم حتى صاروا يتركونهم ميتين في داخل البيوت، ويبنون على باب البيت جداراً من طين، ويتركون الموتى في الداخل بلا غسيلٍ، ولا أكفانٍ، ولا صلاةٍ ولا دفن.. وكانوا في أحسن الحالات يحفرون حفرة كبيرة جدًا، ويلقون فيها عشرات الموتى من هذه الأوبئة.
وفي الشام في ذلك القرن، القرن الخامس الهجري، حل بها طاعون، كانت مدته قصيرة جدًا، كانت أربعة أيام فقط، دخل الطاعون الشام، وعدد سكانها نصف مليون، وخرج الطاعون منها بعد أربعة أيام، هل تدرون كم بقي؟
لم يبقَ من أهل الشام إلا ثلاثة آلاف فقط! لقد كان طاعوناً فتاكاً، حتى إنهم في تلك الأثناء، كانوا يخافون جدًا من العدوى بسبب سرعة انتشار المرض وكثرة الموتى بسببه، حتى إن رجلًا مات وفي جيبهِ خمسون ألف درهم، وهذا مبلغ كبير، ومع ذلك لم يجرؤ أحد أن يمد يده إليها، فحملوها في قماش ووضعوها في المسجد، ولم يمسها أحد حتى لا تصيبهُ العدوى، بعد ثلاثة أيام دخل المسجد أربعة رجال، فتقاسموا هذا المبلغ بينهم ولكنهم ماتوا من ليلتهم.
وفي هذا القرن أيضًا كان هناك رجلٌ غني جدًا، كان عندهُ قصر يعيش فيه معه خمسين نفس، ما بين خدم، وزوجات، وأولاد، وبنات، هذا التاجر كان يوجد في قصرهِ مليونين دينار، وهي ثروة كبرى في ذلك الزمان، ومع ذلك لم يجرؤ أحد أن يدخل إليه في قصره ليأخذ المال، مع العلم أنهم كلهم كانوا أمواتًا.
وفي ذلك القرن كانت طفلة تقف على عتبة باب أهلها تصيح، تستغيث أن يأخذها أحد بعد أن مات أهلها كلهم، تستغيث في داخل الدار فلا يجيبها أحدُ، الجميع ميت، وقف رجل فأطل في الدار، فوجد تسع جثث ما بين ملقىً على وجهه، وما بين مستند على الجدار، وما بين مستلقٍ على جنبه ففزع وانطلق والطفلة تتعلق به، وبعد ساعة حنَّ قلبهُ فرجع إليها، لكنهُ وجدها ميتةً على صدر أمها.
وتتوالى الأوبئة والأمراض على العرب والمسلمين، ففي القرن السادس الهجري: كان بين الحجاز واليمن عشرين قرية، نزل بأهلها وباء، فأفنى ثماني عشرة منها، فلم يبقَ إلا قريتان اثنتان فقط، الجميع ماتوا.
وتستمر الأوبئة بعد ذلك، حتى أصل بكم إلى القرن الثالث عشر الهجري، في هذا القرن انتشرت الكوليرا، وعصفت بالعالم، ليس بالعرب والمسلمين فحسب، بل بالعالم كله، وتكررت سبع مرات في ذلك القرن فعصفت بالعالم، حتى مكة المكرمة لم تسلم منها، فقد دخلتها الكوليرا عام 1865م فقتلت ثلاثين ألف حاج.
أما القرن الرابع عشر الهجري: فقد عُرفَ بالأنفلونزا الإسبانية، هذه الإنفلونزا كانت فتاكة، بل فتاكة جداً، فقد قتلت في أقل التقديرات خمسين مليون إنسان على مستوى العالم، هذا في أقل التقديرات، والبعض يصعد بالعدد إلى مائة مليون إنسان، هؤلاء موتى وليسوا مصابين، وإذا أردتم أن تعرفوا عدد المصابين بالإنفلونزا الإسبانية، فإن أقل التقديرات تشير إلى أنهم كانوا خمسمائة مليون إنسان، نصف مليار مصاب بهذا الداء. والعجيب أن الأنفلونزا الإسبانية لم تكن تقتل في العادة إلا الشباب، أما كبار السن والأطفال فغالبًا كانوا يسلمون منها.
هذه الأرقام الكبيرة إذا قارناها بأرقام فيروس كورونا اليوم، نجد فيروس كورونا بينها لا شيء مقارنةً بما مر بالعرب والعالم في القرون الماضية.
بعد هذه الجولة الطويلة أريد أن استخلص معكم هذه النتيجة وهي: أن فيروس كورونا الذي يعيش بيننا اليوم هو شيءٌ لا يُذكر مقارنةً بتلك الفيروسات التي كانت تقتل عشرة آلاف، وعشرين ألف في اليوم الواحد، ونحن اليوم لا نحصي آلاف القتلى، بل ولا نحصي آلاف المصابين، فكل ما نحصيه لا يتجاوز الثلاثمائة أو الأربعمائة مصاب في اليوم، أما القتلى فلا نكاد نذكر إلا القليل، ولذلك قلت لكم حَنا بخير، فعلًا حنا بخير؛ لأن الأزمة عندنا تدار بحزم، تدار بفطنة، تدار بسياسةٍ حكيمة، حتى استطاع المسؤولون والعاملون على مكافحة هذا الفيروس من خنقه ومنع انفلات تمدده.
نسأل الله أن يرفع عنا هذا البلاء، وأن نفرح قريبًا بإذن الله بانجلاء الغمة، كما أسأله أن يقوي حكومة هذه البلاد، وأن يقوي الأجهزة الصحية والأمنية العاملة على احتواء هذا الداء، حتى نسعد بزوال الأزمة أقرب مما نؤمل.
تفاءلوا، وأحسنوا الظن بالله، حَنا بخير، نعم حنا بخير.