الهدهد والمَلِكَة



بقلم الأستاذ / منيف الضوِّي

تَتَجلَّى الصفاتُ القيادية بوضوح في القرآن الكريم في سورة النمل من أولها إلى آخرها، وتتطرق السورة إلى الأنبياء بكل ما أوتوا من صفات وسمات ساهمت في هداية وقيادة البشرية بلا شك؛ حيث وردتْ في السورة قصة موسى وداود وصالح ولوط عليهم السلام جميعاً، كما وردت قصة نبي الله سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ بلقيس، وكل هذه القصص تتطرق للقيادة بشكل أو بآخر.

وورد أيضاً الدور الذي كُلِّف به الهدهد في تلك القصة، وماله من أبعاد قيادية مختلفة ضمن أهداف محددة.

والهدهد في الأدبيات والتراث العربي يشتهر بكثرة السجود، لذلك تقول العرب “أسجد من هدهد”، ولكن شهرته الحقيقية تكمن في قوة إبصاره وبصيرته، لذلك يقولون في الأمثال”أبصر من هدهد”، حيث يُروى أنه كان يهدي جنود النبي سليمان عليه السلام إلى الماء. والهدهد رمز الحكمة أيضاً، وبسببه أسلم قوم بلقيس.

وحينما أفتقده النبي سليمان، جاء ووقف غير بعيد، وهنا تبرز أهمية المسافة ودلالتها العقلية في القصة وهو ما اشتهر اليوم بمفهوم التباعد الاجتماعي، وقدم لسليمان عليه السلام معلومة صادمة (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)، ثم أكد صحة الخبر(بخبر يقين) بعيداً عن التخمين والشائعات، أنظر كيف هيَّأَ نبي الله للاستماع إليه، وقدَّم له معلومة توافق اهتماماته، وأهدافه في الحياة وهي نشر الدين القويم.

على الطرف الآخر، وبلا شك تتجلّى أبهى صور القيادة عند نبي الله سليمان عليه السلام، ولكنني سأتجاوزها إلى استعراض حكمة هذه الملكة العظيمة”بلقيس”، وكيف تصرّفت في هذه المشكلة التي حَلَّت بها، وهدَّدَتْ عرشها، وكيف ظهرتْ سماتها القيادية، وقدرتها على اتخاذ القرار وحل المشكلات وفق الطرق العلمية الحديثة، ومن ضمنها طريقة التفكير عبر القبعات الست، فحينما ألقى إليها الهدهد كتاب النبي سليمان، “قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ” .

ويتضح من هذه الآية أنها دعت مجلس الشورى الخاص بها، وأدارت الاجتماع، ومارست معهم الشفافية، وتقديم المعلومات، وحدَّدتْ الهدف من الاجتماع بوضوح، وهنا ارتدت القبعة البيضاء التي تدّلْ على جمع المعلومات والبيانات والبحث والتقصي، ثم ارتدت قبعة التفكير الحمراء التي تدل على العاطفة والمشاعر؛ حيث وصفت الكتاب بأنه(كريم) .

وهنا أظهرت مشاعرها نحوه، ومن هنا تبرز أيضاً قيمة الآية الكريمة “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً”، فأسلوب نبي الله في الدعوة إلى ربه تميزت بالحكمة والموعظة الحسنة، ولهذا تأثيره الواضح في بقية القصة، ثم قالت: “يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ”، وهنا تبرز قدرتها على التواصل مع فريقها، وإشراكهم في صنع القرار؛ حتى يتبنُّوا قرارها فيما بعد، وكأنهم هم من اتَّخذ القرار، والواقع أنها لم تَتَبَنَّ رأيهم وخالفته .

فيما سيظهر بعد ذلك، حيث قالوا: “نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ”، والملكة بلقيس لم تندفع وتتخذ قرارها بناء على المعطيات التي قدَّمها لها الملأ من قومها، بل ظهرت عبقريتها وحكمتها حينما اقترحت بدائل أخرى، وأيضاً جعلت لقرارها خط رجعة؛ حتى لا تخسر المعركة من الجولة الأولى، ثم قَالَتْ: “إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ”، .

وهنا ارتدت قبعة التفكير السوداء، والتي تُعنى بالتوقعات السلبية، وبالحذر، والنقد والبحث عن الأخطاء، ثم لبستْ بعد ذلك قبعة التفكير الخضراء وهي تُعنى بالبدائل والمقترحات والحلول الأخرى، وقررتْ إرسال المال لهم “وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ” ، ونلحظ هنا أدبها وارتدائها القبعة الصفراء، حيث قللت من النزعة السلبية، وأعطت قرارها هذا فرصة للنجاح؛ حيث وصفت المال بالهديَّة، وهي رغم أنها بين قومها وتواجه جيشاً غازياً، لم تشأ أن تسميها رشوة أو فداء أو أية تسمية غير مهذبة، بل سمَّتْها هديَّة، لأن سليمان عليه السلام قال”أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ” ، وطبعاً تتوالى القصة، ثم تأتي إلى سليمان عليه السلام صاغرة .

ويظهر ذلك من تداعيات القصة، “فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ”، وهنا ربما ظهر مفهوم ما يسمى بالحرب النفسية والإعلامية وإظهار القوة، وتبرز حكمتها مرة أخرى في ردودها عن طريق إجابة تحتمل الصواب والخطأ، وتخفي خط رجعة عند الحاجة، فلم تندفع بقول نعم وهي التي تعرف عرشها(سرير المُلك)، ولم تقل لا، فتقع في الخطأ، وهذا دلالة على رجاحة عقلها.

“قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، وبعد ذلك وكما يظهر من الآية، اتخذت قرارها النهائي، وهو الإسلام لله سبحانه وتعالى، وترك عبادة الشمس، اعترفت بأنها ظلمت نفسها بالشرك لله، وهنا ارتدت القبعة الزرقاء والتي تدل على اتخاذ القرار ، والبدء في التنفيذ، والتوصل إلى الحل النهائي بعد استعراض كافة المعطيات السابقة.

ومما يلاحظ من كمال عقلها واعتدادها بنفسها كملكة مطاعة ومهابة في قومها، أنها قالت أسلمت(مع) سليمان لله، ولم تقل أسلمت لسليمان، فهي وهو عبدان لله جل وعلا،ومتساويان في هذه الصفة، وهذا من ذكائها الذي يخدم إيمانها بلا شك.

فأيُّ قرارٍ أعظم من قرارها الذي أنجاها من عبادة الشمس ومن النار؟ وأيُّ عقلٍ أرجح من عقلها؟