لأنها أمي… كيف نتخطى رد الجميل إلى فنّ الدلال؟



ثريا الشهري 

جميعنا يعرف حق الأم، ويحفظ عن ظهر قلب عظمتها ومكانتها، ويُردد الأحاديث والآيات التي تبين دورها وقدرها. لسنا هنا لنجادل في ذلك، ولا لنذكّر بما لا ينسى. فالأم، في وجدان أي ابن وابنة، هي المعنى الأول للحب، والمدرسة الأولى للصبر والتفاني.

لكن حديثنا اليوم ليس عن الاعتراف بفضلها ولا عن رد الجميل بمعناه التقليدي. ليس المقصود أن تقول لها “شكرًا” فحسب أو تعينها عند الحاجة وكأنك تؤدي دَينًا. بل عن شيء أجمل وأرقى: أن نتعلم كيف ندللها حقًا. كيف نرد الجميل بشكل دلال يليق بقلبٍ ظل يدللنا رغم كل شيء.

لذلك… إليكم حديثنا الحقيقي اليوم:

كيف ندلل أمنا؟ كيف نعبر من خانة رد الدين البارد إلى خانة العطاء الحي الدافئ؟

إليكم بعض الوصايا… لمن أراد أن يُدلل قلب أمه حقًا:

-افعلوا شيئًا لها، كانت هي تقدمه لكم.
بدل أن تنتظروا منها أن تطبخ أو تنظف أو تنجز، خذوا زمام المبادرة. اطبخوا لها طبقها المفضل، نظّفوا غرفتها، جهّزوا لها فطورًا صباحيًا تضعونه أمامها بابتسامة تقول: “اليوم دورك ترتاحين”.
-خصصوا لها يومًا من أجلها فقط.
اصطحبوها في نزهة، دون أن يكون وراء ذلك حاجة. فقط قولوا لها: “أمي، اليوم لك. وين تبين نروح؟ وش تبين نسمع؟ وش تبين نأكل؟”
-أرسلوا لها رسائل صوتية فجأة.
لا تنتظروا مناسبة. سجّلوا أصواتكم وأخبروها كم تحبونها، كم تفخرون بها، كم هي جميلة رغم تعبها، وكم هي نعمة لا تُعوّض.
-دعوها تحكي، ولا تقاطعوها.
استمعوا لصوتها حتى لو كانت تعيد نفس القصة للمرة العاشرة. الأم حين تحكي، لا تطلب انتباهك فقط، بل تطلب العناية بذاكرتها، واحتضانًا لماضٍ صاغ ملامحها.
– دلّلوا اسمها، لا تنادوها فقط بلقب.
نادوها : “يا عمري يا أمي”، “يا أغلى الحبايب”، “يا ضي عيوني”، اجعلوها تسمع منكم ما تقولونه عادةً لمن تحبونهم .
– وثّقوا لحظاتكم معها.
التقطوا لها صورًا وهي تضحك، وهي تطبخ، وهي تشرب قهوتها. دعوها ترى نفسها جميلة من أعينكم، لا من مرآتها فقط.
– خصصوا لها وقتًا حرًا بلا أجندة.
لا تزوروها لمجرد تأدية واجب. اجلسوا معها دون استعجال، اسألوها عن يومها، عن ذكرياتها، عن آمالها. أنصتوا، وكونوا حضورًا حقيقيًا يلامس روحها.
– اشتروا لها شيئًا تحبه فاجئوها بأشياء صغيرة تحبها.
زهرة على غير موعد. قهوتها المفضلة. بطانية ناعمة تُشعرها بالدفء. المهم الفكرة والاهتمام.
-امدحوها في العلن والسر.
دعوا كلماتكم لها تُقال أمام الناس وأمام أنفسكم. “أمي الأجمل”، “أمي الطيبة”، “نور بيتنا”. إن للكلمات أثرًا لا يزول.
– أعدوا لها يومًا مختلفًا.
خذوها إلى مطعم، إلى منتزه، إلى البحر أو السوق، ولكن هذه المرة اجعلوها هي “الضيفة” المدللة، لا ربة الأسرة المنظمة.
– اكتبوا لها رسالة أو بطاقة.
ليس شرطًا أن تكون شاعرًا، يكفي أن تكون صادقًا. أخبروها بما قد تخجلون أن تقولوه وجهًا لوجه.
– تعلموا أن تسألوها: “ماذا تريدين وماذا تحبين؟”
لا تفترضوا أنكم تعرفون. اجعلوا السؤال عادة، دللوها باحترام رغباتها الصغيرة.
– اجعلوها تضحك.
حدثوها بنكاتكم، بمواقفكم الطريفة، شاركوها فيديوهات مضحكة، أحيوا روح البهجة فيها.
– طمّنوها على قلوبكم.
لا شيء يسعد الأم كاطمئنانها عليكم. شاركوها أخباركم الطيبة. أخبروها أنكم بخير.

ليس المطلوب أن تردوا الجميل وكأنكم تسددون فاتورة. بل المطلوب أن تجعلوها تشعر أن محبتها لم تذهب هباء، وأنها لا تزال تستحق أن تُدلل كأغلى قلب في البيت.

وللأمهات، وسط كل هذا العطاء، تذكّري: قوتك لا تعني الإنكار. اسمحي لنفسك أن تُدللي، أن ترتاحي، أن تطلبي بلا خجل. لأن تعليم الأبناء كيف يحبونك، هو أيضًا جزء من الأمومة.

لكن… ماذا عن الأم التي رحلت؟
هناك من يقرأ هذا ولا يجد أمه بين يديه… وإنما بين يديه ذكرى وصورة ورائحة عالقة بالذاكرة.
بعض الوصايا لبر الأم حتى بعد رحيلها:
– اذكروها بالخير.
حدثوا الناس عنها. شاركوا أجمل ما كانت عليه. خلدوا أثرها في قلوب من لم يعرفوها.
– ادعُوا لها.
اجعلوا الدعاء لها عادة يومية.
– تصدّقوا عنها.
اشتروا ماء باردًا للمساجد، ساهموا في وقف، أطعِموا محتاجًا، وانووا “اللهم هذه عنها”.
– سامحوها إن قصرت يومًا، واطلبوا منها العفو في قلوبكم إن قصرتم معها.
“يا أمي سامحيني، وأشهد الله أني سامحتك على كل شيء.”

في النهاية…
ليس المطلوب أن نرد الجميل كأننا نسدد فاتورة قديمة. المطلوب أن نحيا معها — أو لذكراها — بذات الحنان الذي علمتنا إياه.


5 /5
Based on 4 ratings

Reviewed by 4 users

    • 4 أشهر ago

    نص نبيل من شخص نبيل

    ليس كل الكتابات تكتب بالحبر، بعضها يكتب بالقلب وهذا احدها.
    ثريتي..أنتِ نبيلة لا بكلماتك فقط ، بل بطريقة رؤيتك للحياة
    شكرًا لأنك أثرتِ و ألهمتِ قلوبًا بصدقٍ و رقي.

    • 4 أشهر ago

    ليس أجمل من هذا المقال الذي يقود قارئه لاقصر الطرق لقلوب الأمهات ، إلا كاتبته الرائعة ، بوركت أيتها الإنسانة وبورك حرفك الدافىء ونبرته الهادئة وأهدافة العميقة .. سعدت بقراءتك 🩷🌹

    • 4 أشهر ago

    الابداع في كلمات

    لا حروف تكتب بعد حروفك و لا عبارت تقال بعد عباراتك ..ابدعت بكل مايعنيه التبداع و تجاوزت حروفك كل ماهو مألوف في بر الام..رزقك الله بر ابناءك و حفظك لهم

    • 4 أشهر ago

    كلامك راقي وابقيت عيني على جوانب كانت غايبه شكراً من القلب
    ♥️مشاعل الملحم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • Rating


مواضيع ذات صلة بـ لأنها أمي… كيف نتخطى رد الجميل إلى فنّ الدلال؟

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الراية الإلكترونية © 2018 - 2025

تصميم شركة الفنون لتقنية المعلومات