سيِّدُ الأوطان.. مجدٌ، رفعةٌ، أمنٌ وأمانٌ



بقلم :اللواء الركن م. الدكتور
بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود

ليس ثمَّة شك أن وطننا هذا، المملكة العربية السعودية، هو سيِّد الأوطان في الكون كله دون منازع، بل يكفيه فخراً واعتزازاً تشريف الله عزَّ و جلَّ له، إذ تفضَّل عليه فجعل فيه بيته المحرم، وأرسل منه آخر رسله رحمة للعالمين كافة حيثما كانوا في مشارق الأرض ومغاربها، دونما تفرقة بسبب عقيدة، عرق، جنس، لون أو لغة. كما جعله قبلة للمسلمين يتجهون صوبه خمس مرات في اليوم الواحد على الأقل في الصلوات الخمسة التي فرضها الله على عباده؛ بل كلَّما قام مسلم يصلي بين يدي ربِّه، يمَّم وجهه شطر الكعبة المشرفة في مكة المكرمة. وجعل سبحانه وتعالى أفئدة الناس تهوي إلى وطننا العزيز الغالي هذا، الذي ليس مثله في الدنيا وطن من كل فجٍّ عميق، يأتون على كل ضامر لأداء فريضة الحج وأداء العمرة وزيارة سيِّد الخلق، رسولنا الكريم، هادينا إلى الخيرات وسابقنا إليها، سيِّدنا محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. كما جعله آمناً مطمئناً، ورزق أهله من كل الثمرات، فتدافع الناس إليه من قارات العالم كلها، لأداء شعيرة الحج والعمرة وزيارة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وطلباً للرزق والكسب الحلال. يضاف إلى كل هذا، الموقع الإستراتيجي المتميز، الذي جعل بلادنا حلقة وصل مهمة، بل في غاية الأهمية بين الشرق وبين الغرب لتبادل المنافع والمصالح المشتركة.
وصدقاً، حقَّاً وعدلاً: إن نَعُد نعم الله علينا، فلن نحصيها. ولهذا أكتفي حتى هنا بهذا القدر. وبالطبع إن أنسى فلا أنسى أن أضيف إلى تلك النعم العظيمة التي تفضَّل المنعم الوهاب بها على بلادنا العزيزة الغالية: هذه الأسرة المباركة التي أنجبت لنا قادة عظماء أوفياء مخلصين من آل سعود، الذين تحملوا مسؤولية هذه الرسالة السامية العظيمة بكل كفاءة وجدارة واقتدار، بل يعتزون بهذا الشرف العظيم، الذي لا يدانيه في الدنيا شرف، وهل ثمَّة شرف في الدنيا أعظم من حماية بيت الله وخدمة ضيوف الرحمن، ورعاية الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة! فظلوا يحملون راية التوحيد وينافحون عنها بالمال والنفس والولد، منذ ثلاثة قرون إلا قليلاً.. كلَّما ترجل فارس بعد رحلة جهاد طويلة شاقة، تسلم الراية فارس آخر للمجد من فرسان آل سعود الكرام البررة، فأضاف إلى هذا البناء الشامخ الراسخ لبنات جديدة، ودفعوا مهر ذلك غالياً: نفوساً طاهرة وأرواحاً زكية؛ ضحوا بها رخيصة من أجل إعلاء كلمة الله وترسيخ التوحيد، ونشر الدعوة، ومحاربة البدع والخرافات والأساطير وعبادة القبور، ومساعدة المسلمين حيثما كانوا، لاسيَّما الأقليات المسلمة، ونثر الخير على عباد الله أجمعين، ليتفرغ الناس للعبادة والعمل والإنجاز والإبداع، غير آبهين بما ينالهم من تعب وسهر ونصب، وما يلحق بهم من أذيً. لتتجه القلوب، وهي مطمئنة، لعبادة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؛ حتى عُرِفَ أهل هذه البلاد المباركة بـ (أهل التوحيد)، بل أصبح هذا المصطلح من أشهر نخواتهم التي يعتزون بها، وتدفعهم للتضحية والفداء فرحين مستبشرين، واثقين بنصر الله الرحمن الرحيم، لخدمة رسالتهم السامية العظيمة بكل غالٍ ونفيس.
وصحيح، كغيرنا من بقية الأمم والشعوب في هذا الكون الفسيح، مرَّ تاريخنا بتحولات عديدة، حتى أصبحنا على ما نحن عليه اليوم بفضل الله وتوفيقه من مجد وخير ورفعة وأمن وأمان واستقرار واطمئنان. ولأن الحديث في هذا الأمر يطول، ولأننا نحتفي في هذه الأيام الطيبة بذكرى يومنا الوطني المشرق المجيد، سأكتفي هنا بالحديث عن الدولة السعودية المباركة، وعمَّا بذله قادة آل سعود الكرام البررة على مر التاريخ من جهد عظيم من أجل تأسيس هذا الوطن الشامخ الراسخ وإرساء دعائمه، وتحقيق نهضته وتطويره حتى غدا اليوم شامة بين الأمم، يقصد عاصمته زعماء العالم من أركان الدنيا كلها، طلباً للدعم والمشورة والرأي السديد في كل ما يتعلق بشؤون السياسة الدولية والاقتصاد العالمي، بل قل تعدَّى الأمر هذا الموضوع لاسيَّما في هذا العهد الزاهر الذي نتفيأ ظلاله الوارفة اليوم بقيادة حادي ركبنا، قائد مسيرتنا المظفرة إلى الخيرات، خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ملك الحزم والعزم والحسم والرأي السديد، أعرف الناس بتاريخنا المجيد، وأحرصهم على توثيق إرثنا الحضاري وحفظه، و ولي عهدنا القوي بالله الأمين، أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، حفظهم الله ورعاهم، وسدَّد على طريق الخير خطاهم؛ أقول: تعدَّى الأمر موضوع السياسة والاقتصاد، ليستلهم الآخرون تجربتنا الفريدة الثرَّة في تنمية الأوطان وتطويرها وتحقيق مجدها ورفعتها وحماية استقلالها، والمنافحة عن كرامة أهلها وعزتهم، وحسن إدارة الدولة وطب الحشود وفلسفة العلاقات الدولية التي أدهشت حتى من كانوا بالأمس القريب يتبجحون بأنهم دولاً عظمى، يظنون أنهم يتأبطون بقية خلق الله، فلا يقوى أحد على الخروج عن طوعهم، أو مخالفة رأيهم أو عصيان أمرهم.
فمنذ بزوغ نجم الدولة السعودية الأولى عام 1157ه/1744م، كما يصفه الدكتور منير العجلاني، صاحب تاريخ البلاد العربية السعودية في هذا المشهد المهيب:
(خرج الدِّيْن، يطلب سيفاً يحميه..
وانطلق السيف، ينشد دِيْناً يهديه..
وتلاقيا عام 1157، في الدرعية..
قال الدِّيْن للسيف: أعطيك الملك والنصر..
وقال السيف للدِّيْن: أعطيك الجهاد والصبر..
وكان العهد المسؤول..
وكان الجهاد الموصول..
وكان المجد المأمول..
تلك هي قصة اللقاء التاريخي..
بين الأمير محمد بن سعود..
والشيخ محمد بن عبد الوهاب..
ففي هذا اللقاء: وضع ميثاق الدرعية..
وولدت الدولة السعودية..
وبدأ تاريخ نجد الحديث..
بل تاريخ الجزيرة العربية).
أجل، منذ يومئذٍ بدأ تاريخ الجزيرة العربية المشرق وإرثها الحضاري العريق، إذ شرع قادة آل سعود، بداية من الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، مؤسس الدولة السعودية الأولى، الذي حدَّد أساس المادة الأولى من دستور هذه الدولة الفتية المباركة: نصرة دين الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وإقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى أفول نجمها لتشرق شمسها من جديد ساطعة بهية في الدولة السعودية الثانية عام 1240ه/1824م على يد الإمام تركي بن عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، صاحب السيف الأجرب، مؤسس الدولة السعودية الثانية، الذي كان من الأبطال الأفذاذ الذين يُضرب بهم المثل في الشجاعة والإقدام، إذ تشهد له كل أعماله بهذا، كما كان صاحب فكر ثاقب ورأي صائب بإجماع كل من كتب عنه، لا تهن عزيمته عند الشدائد، ولا يعرف اليأس سبيلاً إلى قلبه، ولا يثنيه الفشل عن قصده مهما طال الليل وادلهمت الخطوب. فأضاف هذا البطل الفذ الشجاع المقدام، لبنات جديدة في مسيرتنا الطويلة نحو الخير على ما حققه آباؤه وأجداده الكرام قادة الدولة السعودية الأولى؛ وحدَّد أساس المادة الثانية من دستور بلادنا، دولة الرسالة السامية العظيمة في هذه الكلمة المقتضبة الجامعة، التي سوف تظل تتردد في الآفاق إلى الأبد، محددة مبادئ قافلة خيرنا القاصدة: إقامة العدل، وبسط الأمن والنظام، وتحقيق الوحدة الوطنية، والالتزام التام بإتباع منهج الإسلام: (أُشْهد الله أني بريء من ظلم من ظلمكم، وأنا نصرة لكل صاحب حق وعون لكل مظلوم. “واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها”. وأعزكم بعد الذِّلة، وكثَّركم بعد القلِّة، وأمَّنكم بعد الخوف، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، والسلام).
ثم غشي الدولة السعودية الثانية ما غشيها من تقلبات الأيام وتصرمها، حتى أفل نجمها لتشرق شمسها هذه المرة من جديد أيضاً فجر الخامس من شوال عام 1319ه، الموافق للخامس عشر من يناير عام 1902م، لتظل بهية ساطعة إلى الأبد إن شاء الله، تهب الناس الضوء والدفء والنور، على يد أحد زعماء آل سعود العمالقة الأشاوس، الذين سطَّر التاريخ أسماءهم في سجلات الخالدين، ذلكم هو المؤسس البطل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، والد الجميع، الذي وهبه الله سبحانه وتعالى رجاحة في العقل، وتقدماً في الفكر، وبسطة في الجسم، وحباه بكثير من صفات القيادة والبطولة من شجاعة وصبر وإقدام، وحلم وحزم وحسم، وجود وكرم، ونكران ذات، وبعد عن الأهواء وزهد في الملذات حتى من الطيبات، وصفاء نفس، ورهافة حس، وطموح لا حدود له، وأمل أخضر مشرق، يجعل الثريا بين يديه، وثقة في عون الله وتوفيقه ونصره وتأييده، كما كان بجانب هذا كله تقياً، متين الإيمان. فأكرمه الله بنعمة التوفيق في تجاوز الخطوب والغمرات، والانتصار على الأعداء بالهيبة والرعب. وقد وصفه الكاتب المصري محمد جلال كشك وصفاً بليغاً جامعاً، أحفظه عن ظهر قلب، ويكاد الدمع يسيل على المآقي كلما رددته: (كانت لديه قدرة ساحرة على احتواء الآخرين من شتى الثقافات والانتماءات والخلفيات، أخضع البدو بشهامته وسخائه ورجولته، بل فحولته التي تفتن العربي الأصيل. وبايعه الريحاني اللبناني المسيحي الأمريكي الجنسية، وفيلبي الملحد ممثل الإمبراطورية، وتلاميذ محمد عبده والأفغاني في العالم العربي وعشاق الخلافة من مسلمي الهند، وثوار ليبيا، والوفديون في مصر، والوطنيون في سوريا والعراق.. كلهم بايعوه زعيماً للعالم العربي، واعتبروه المنقذ الوحيد للعالم الإسلامي).
والحقيقة، كان عبد العزيز أكثر من بطل جسور، يعجز الإنسان عن حصر صفاته البطولية العظيمة الاستثنائية الفريدة، التي وهبه إياها المنعم الوهاب، ولم تكن تتأتى لرجل غيره من جيله في قومه، غير أن أكثر ما لفت نظر المؤرخين واستوقفهم، إقامة البطل الملك عبد العزيز للعدل وبسطه للأمن، حتى أمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وتأمين طرق الحج الذي يمثل أحد أهم أركان دولة الرسالة السامية العظيمة التي أحياها عبد العزيز، على نهج آبائه وأجداده الكرام، حتى أصبح الراكب من صنعاء إلى الشام، لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه. ويستدعي هذا إلى الذاكرة حديث ابن الجوزي عن مرتبة السلطان العادل، إذ يقول: (تزيد مرتبة السلطان العادل على قوَّام الليل وصوَّام النهار، لأن نفع أولئك لا يتعداهم، إذ بنظره يتعبد المتعبدون، ويشتغل بالعلم المتعلمون، فكأنه عبد الله بعبادة الكل). كما تذكرني بطولة عبد العزيز الاستثنائية الفريدة بوصف الكاتب الإنجليزي كارليل، الذي يصف البطل بقوله: (البطل هو الزعيم القوي الملهم، الذي يحدد مسار التاريخ). ولهذا يُشبِّه كثير من المؤلفين الملك عبد العزيز بجده الإمام فيصل بن تركي، غير أن المؤرخين العارفين يؤكدون أنه يشبه جده الإمام تركي بن عبد الله، أكثر مما يشبه جده فيصلاً. ويقول خالد الفرج في هذا:
لم يذكر التاريخ إلا جدَّه
تركي من شبيه له ومثيل
كما وصف الشاعر أحمد إبراهيم الغزاوي الذي كان يلقب بـ (شاعر الملك عبد العزيز) حرص المؤسس على إقامة العدل وبسط الأمن قائلاً:
والأمن مضروب السرادق وارفٌ
والحكم عدلٌ والشريعة مظهر
والظلم لفظٌ ضلَّ عن مدلوله
أيان كنت فإنه بك يُذعر
غير أن بولس سلامة، صاحب ملحمة عيد الرياض، يظل في نظري أبلغ من وصف حرص عبد العزيز على إقامة العدل وبسط الأمن، إذ يقول:
يا ابن عبد الرحمن عدلك أصفى
من رفيف الأريج في البيلسان
فوحه شاع كالضياء على الصحو
ودفق العبير في نيسان
جاوز المدن للقفار الخوالي
واستوى عرفه على الكثبان
أنت فيها رفيق كل وحيدٍ
جاز ما بين جدة و عمان
***
ليس بعد الإله إلا خيال
منك،يحمي قوافل الركبان
يرهب الغادرون بطش مليكٍ
ساهرٍ في منامه يقظان
وعلى شعبه له ألف عينٍ
تتولى صيانة البستان
***
عدل عبد العزيز ردَّ إلى الصحراء
عدل الفاروق بعد الأوان
أجل، فقد كان عبد العزيز قوياً بالله، واثقاً في نصره، زعيماً كبيراً ملهماً بحجم التحدي، حقق بتوفيق الله سبحانه وتعالى، ثم بوحدة شعبه والتفافهم حوله وتلاحمهم معه، هذه الدولة الفتية القوية المباركة الناهضة، التي يشرئب عنقها دوماً للمعالي. وأرسى دعائمها، ووضع دستورها على نهج السلف من آبائه وأجداده الكرام: كتاب الله العزيز الحميد، الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، وسُنَّة رسوله المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى. كما حدَّد اتجاه بوصلة مسارها التاريخي في وصيته الجامعة لولي عهده، ابنه الأمير سعوداً، وبالطبع هي وصية شاملة لكل من يتولى الملك بعده: (تفهم إننا نحن والناس جميعاً، ما نعز أحداً ولا نذل أحداً، إنما المعز والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتر بغيره – عياذاً بالله – وقع وهلك. موقفك اليوم غير موقفك بالأمس، ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور:
أولاً: نية صالحة، وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد، ونصر دين الله. وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقات خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك. تعبَّد إلى الله في الرخاء، تجده في الشدَّة. وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة. فلا يصلح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق، وإلا العمل الخفي الذي بين المرء و ربِّه.
ثانياً: عليك أن تجد وتجتهد في النظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سرَّاً وعلانية، والعدل في المحب والمبغض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطناً وظاهراً. وينبغي ألا تأخذك في الله لومة لائم.
ثالثاً: عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة، وفي أمر أسرتك خاصة. اجعل كبيرهم والداً، ومتوسطهم أخاً، وصغيرهم ولداً. و هِنْ نفسك لرضاهم، وامح زلتهم، وأقل عثرتهم، وانصح لهم، واقض لوازمهم بقدر إمكانك.. فإذا فهمت وصيتي هذه، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل، فابشر بالخير.
أوصيك بعلماء المسلمين خيراً. احرص على توقيرهم ومجالستهم وأخذ نصيحتهم. واحرص على تعليم العلم، لأن الناس ليسوا بشيء إلا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة.. إحفظ الله يحفظك.
هذه مقدمة وصيتي إليك والباقي يصلك إن شاء الله في غير هذا).
وصحيح، كانت تلك وصية المؤسس عبد العزيز لولي عهده ابنه الأمير سعوداً، غير أنها كانت وصية جامعة شاملة لكل من يتولى الحكم بعده، بل لكل سعودية وسعودي؛ وكأنه أراد أن يقول لنا: إذا أردتم النجاح والتوفيق في حياتكم، فدونكم الطريق الذي سلكته، فقادني إلى حيث أهدافي كلها والحمد لله رب العالمين. والحق يقال، من يتأمل حياة عبد العزيز، يجد أن تلك الوصية كانت وصفة حياته كما وصفها المؤرخون الثقاة. فالتزمنا بها نحن السعوديين، وأصبحنا كلنا على قلب رجل واحد خلف قادتنا الأشاوس من أبناء عبد العزيز الكرام البررة، الذين أحسن المؤسس تربيتهم وإعدادهم لاستمرار مسيرة الخير الظافرة إلى الأبد، من الملك سعود، فالملك فيصل، ثم الملك خالد، فالملك فهد، والملك عبد الله، حتى هذا العهد الزاهر، عهد والدنا خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، و ولي عهده القوي بالله الأمين، أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع. وهكذا كان كل خلف يضيف مزيداً من العمل والإنجاز والإبداع والتجويد على إنجازات السلف، ملتزماً المنهج نفسه الذي خطَّه المؤسس الملك عبد العزيز.
فأصبحنا اليوم بحمد الله وتوفيقه، ونحن نحتفي بالذكرى الحادية والتسعين ليومنا الوطني المشرق المجيد، دولة كبيرة رائدة، أدهشت العالم بما حققته من خدمة لرسالتها التي جعلت من الحج رحلة سبعة نجوم، وخدمة راقية لضيوف الرحمن، ورعاية تامة شاملة للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، ورفاهية لشعبها، وخيراً للعالمين أجمعين في قارات الدنيا كلها.. إتاحة لفرص العمل، ودعماً غير محدود في الكوارث والنكبات وحيثما صاح مستغيثٌ مستنجداً، لم يستثنِ حتى إيران، التي كلَّما بذلنا جهدنا للمحافظة على شعرة معاوية بيننا وبينها، أصرَّت على قطعها. إضافة إلى هذه المكانة الكبيرة المرموقة المستحقة في المجتمع الدولي، الذي يكن لبلادنا ما تستحق من احترام وتقدير وعرفان وامتنان، لإسهامات قادتنا الكرام الأوفياء المخلصين ومبادراتهم للتغلب على مشاكل العالم السياسية والاقتصادية. وما نتمتع به من إرادة ماضية وعزيمة قوية واستقلال تام في اتخاذ القرار، أدهش حتى ما يُعرف اليوم بـ (الدول العظمى) وأذهلها، مع حرصنا بالقدر نفسه على عدم تدخلنا في شؤون الآخرين حسبما تقتضيه إستراتيجيتنا السياسية كما حددها قادتنا. وتكفيني هنا مجرد إشارة لما شهد به شاهد من أهل تلك (الدول العظمى)، التي ما تزال حتى اليوم في عهد التقنية الرقمية التي أصبحت متاحة للعالم كله، لاسيَّما الأذكياء فيه، تعيش على اجترار مفاهيم الماضي البعيد، يوم كان البعض حتى من بني جلدتنا يعيرنا بالصحراء والشاة والبعير.. أقول تكفيني هنا إشارة الكاتب الأمريكي الشهير بوول سوليفان الذي أدهشته قدرة القيادة السعودية على اتخاذ القرار، وليس أي قرار، بل قراراً صعباً، في لمح البصر، دليلاً على قوة الإرادة، وقدرة الإدارة، وقوة العزيمة والثقة غير المحدودة في الله ثم الثقة الكبيرة في النفس، إذ غرَّد ناصحاً قومه في (الدولة العظمى) للتواضع والتعلم من الرياض كيفية إدارة الدولة لتحقيق مصالح الشعب العليا، إذ يقول: (تسحب الولايات الأمريكية المتحدة، نظام الدفاع المضاد للصواريخ – الباتريوت – من السعودية، فتبرم المملكة فوراً صفقة دفاعية كبرى مع روسيا، وتلغي زيارة وزير الدفاع الأمريكي.. واشنطن تحتاج أن تتعلم من الرياض كيف تلعب الشطرنج).
أجل، لقد ولىَّ عهد الاتكاء على اجترار مفاهيم الماضي، وتحتَّم على الناس التعامل بفكر اليوم المتقدم، ولهذا ينبغي على (الدول العظمى)، أو قل تلك التي هكذا تظن نفسها، أن تتواضع وتتعلم من الدول الناهضة المشرئبة نحو المستقبل المشرق بقيادة السعودية، مثلما فعلت معظم دول العالم بقيادة الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية التي أدهشها فكر السعوديين المتقدم وعقليتهم المتفتحة، وصبرهم وجلدهم، ورباطة جأشهم، وصدقهم وإخلاصهم، وقدرتهم على العمل والانجاز والابتكار والإبداع للتعامل مع فيروس كورونا الذي أصاب حتى (الدول العظمى) بالهلع والشلل التام في مرافقها الحيوية كلها.. فالسعودية اليوم غيرها بالأمس، إذ حققت قفزات عالية في طريق التنمية والتطوير وإدارة الدولة؛ شأن كل الأمم التي تنظر إلى الحاضر بعين المستقبل.
فالحمد لله رب العالمين المنعم الوهاب، الذي وهبنا وطناً ليس مثله في الدنيا وطن، وقيض لنا قيادة واعية، رشيدة، حكيمة، حليمة، شجاعة، مقدامة وذكية، وشرَّفنا برعاية الحرمين الشريفين وخدمة قاصديهما من كل فجٍّ عميق، والاهتمام بشؤون المسلمين حيثما كانوا. والعهد أن نبذل كل غالٍ ونفيس مع قيادتنا الرشيدة من أجل رفعة هذا الوطن العزيز الغالي، وقطعاً لن نكتفي بما كانت تبنيه أوائلنا، بل سنفعل فوق ما فعلوا، كما أكد المؤسس لأمين الريحاني.
وكل عام قيادتنا الرشيدة بخير وعافية، ووطننا في أمن وأمان واطمئنان وسلام، وتنمية وتطوير، وشعبنا الكريم في رخاءٍ ورفاهٍ.