التحرر من سطوة الذوق العام وتقديس رأي الآخرين
ثريا الشهري :
حين يصبح الذوق قالبًا اجتماعيًا، ولم يعد تعبيرًا عن الذات، وحين تُصبح الأذواق قوالب جاهزة، أصبح التفرّد تهمة؛ وتصريحات بصوتٍ خافت.
يتسابق الناس لإظهار إعجابهم بما يُفترض أن يُعجبوا به، ويتناقلون آراء الآخرين كما لو كانت حقائق مقدسة يُحرم المساس بها.
صارت البساطة ضعفًا، والاختلاف خروجًا عن الصف. ولكن، أليس من الطبيعي أن نكون مختلفين؟ أليس في صدق الذوق حرية أعمق من كل ما يُملى علينا؟
ذوقك لا يحتاج شهادة
قلها دون ارتباك: لم تشعر أن فيلمًا شهيرًا مثل تايتانيك يستحق كل هذا البكاء، ولم تجد في الجوكر عمقًا فلسفيًا كما يدّعي البعض.
لا تخجل من قولك إنك لم تفهم روايات باولو كويلو أو أنك لم تجد في الخيميائي ما غيّر حياتك كما يقولون.
أخبرهم أنك تقف أمام لوحات بيكاسو ولا ترى فيها سوى ألوانٍ متشابكة لا تثيرك، وأنك تفضّل ضحكة صادقة في مقهى شعبي على جلسة مثقفين يتبادلون الاقتباسات كأنها جوازات مرور إلى النخبوية.
البساطة ليست جهلًا
لا بأس إن لم تكن خبيرًا في أنواع القهوة، ولا تعرف الفرق بين “لاتيه” و”كابتشينو”، ولا تلتقط صور فنجانك عند الشروق لتشاركها على حسابك في الإنستغرام.
لا بأس إن لم تزر معارض الفن الحديث، أو لم تستشعر ولم تفهم الجمال في لوحةٍ يصفق لها الجميع ، وإن كنت لا تحفظ أسماء الماركات ولا تهتم بالعطور الفرنسية، فهذا لا ينتقص منك شيئًا.
أن تحب الراحة في تفاصيلك الصغيرة لا يعني أنك بلا ذوق، بل يعني أنك تختار ذاتك لا صورتك أمام الآخرين.
وفي المقابل… لا بأس أن تُحب الترند
نعم، لا بأس أيضًا أن تُعجب بما يُعجب به الآخرون.
إن أحببت أغنية تتصدر الترند، أو فيلمًا يشاهده الملايين، أو روايةً تتناقلها المنصات؛ فافعل ذلك لأنك وجدتها صادقة، وليس لأنك تخشى أن تُتّهم بالجهل.
الصدق في الذوق لا يُقاس بمدى ندرة ما تحب، بل بمدى أصالته فيك.
ليس المهم أن تسبح ضد التيار، بل أن تسبح فيه وأنت تعرف لماذا اخترت هذا الاتجاه.
أن تكون صادقًا… تلك هي الحرية
لسنا مضطرين لارتداء قناع الثقافة كي نحظى بالاحترام، ولا لكره البساطة كي نبدو عميقين.
فالبساطة ليست جهلًا، كما أن التعقيد ليس دائمًا دليلًا على الفهم.
الجمال لا يُقاس بمدى موافقته للذوق العام، بل بمدى قربه من ذواتنا.
أن تجد متعتك في وجبة بيتية، أو في فيلمٍ بسيط بعيد عن الجوائز، أو في حديثٍ عابر على شرفة منزلك .. هذا لا يجعلك أقل وعيًا، بل ربما أكثر صدقًا مع نفسك من أولئك الذين يلهثون خلف بريق التميز المصطنع.
ختاماً : كن كما أنت
في نهاية الأمر، لا أحد سيقيس وعيك بعدد الكتب التي قرأتها، ولا بذوقك الموسيقي أو الفني ،سيُقاس وعيك فقط بقدرتك على أن تحب ما تحب دون تبرير، وأن تكره ما تكره دون خوف سواء كان مما يُصنف تصنيفًا عاليًا او مما يُصنف دون ذلك.
اعرف نفسك، وامنحها حرية الاختيار دون أن تلتفت لنظرات الآخرين.
نم على الجنب الذي يريحك، وابتسم حين تشاء، واصنع ذوقك كما تصنع طريقك: كما يناسبك ويناسب حياتك .
فالتحرر من سطوة الذوق العام ليس عصيانًا ، بل هو شكلٌ من أشكال الوعي العميق، وعيٌ يقول بثقة:
“أنا كما أنا، لا كما يريدونني أن أكون.”



