رجل القش .. السلاح الناعم لتشويه النقاشات وهزيمة ما لم يُقَل
ثريا الشهري
نعيش في عصر اللايكات والردود السريعة، حيث لم تعد الحقيقة دائمًا هي ما يُقال، بل ما يُفهم -وأحيانًا كثيرة- ما يُحرّف.
وحين تتسارع المعلومات، يصبح الالتزام بالنزاهة الفكرية ضرورة لا رفاهية. فالمعركة الحقيقية ليست مع الآخر، بل مع الخوف من الاختلاف، ومع الحاجة الدائمة لاختصار المعقّد واقصاء المختلف. وإذا أراد البشر حوارًا يُنتج فكرًا، فعليهم أن يتعاملوا مع الأفكار كما هي، لا كما يتمنون أن تكون.
من بين أكثر الأساليب تضليلاً في الحوارات العامة، تبرز مغالطة رجل القش، يقوم “رجل القش” على مبدأ بسيط وخطير: تقديم نسخة مشوهة أو محرفة من رأي الخصم، ثم دحض هذه النسخة المحرفة باعتبارها تمثل الموقف الحقيقي. وهكذا، يبدو من يفعل ذلك وكأنه فاز بالحجة، رغم أنه لم يواجهها في جوهرها.
فلسفيًا، ترتبط هذه المغالطة بمشكلة أعمق تتعلق بالنزاهة الفكرية. تجاهل فكرة الخصم الحقيقية وتبديلها بأخرى أضعف، سواء عن قصد أو جهل، يعبّر عن ميل بشري للهيمنة بدل الفهم. وتزداد خطورتها عندما تتحول إلى أداة إعلامية لتشويه الخصوم وتضليل الجمهور، خاصة في لحظات الجدل الحادة حول قضايا كبرى.
هذا النمط من التحريف لا يحتاج إلى ذكاء خارق، بل إلى نية للهجوم وللانتصار، لا للفهم.
تقول جملة، فيرد عليك أحدهم بشيء لم تذكره أصلاً، لكنّه يُقنع الناس أنك قلته. مثال بسيط؟ تقول: “أعتقد أن علينا تحسين خدمات التعليم الحكومي”، فيرد أحدهم: “يعني تكره المدارس الخاصة وتريد إغلاقها؟!” هكذا تُفتعل أزمة لم تكن موجودة.
مغالطة رجل القش ليست مجرد زلة فهم؛ إنها تكنيك قديم له حضور قوي في السياسة والإعلام، وعلى موائد النقاش بين الأصدقاء والعائلة. عالم النفس الكندي جوردان بيترسون وصف هذا السلوك بقوله: “رجل القش ليس خطأ بريئًا، بل استراتيجية يتبعها من لا يملك القدرة على مواجهة الفكرة الحقيقية”.
في المشهد الإعلامي، لا يخلو يوم من استخدام هذه المغالطة، خصوصًا في عناوين الأخبار. تصريح بسيط لمسؤول قد يتحول إلى عنوان مثير: “الحكومة تدرس تعديل الدعم”، يتحول إلى “الحكومة تتجه لإلغاء الدعم”، وبين العنوان والمضمون، يُولد رجل قشّ جديد يثير الرأي العام ويؤجج الجدل.
المفكر نعوم تشومسكي قالها بصراحة: “الإعلام لا ينقل فقط، بل يُعيد تشكيل الحقيقة بما يناسب العرض”.
على السوشال ميديا، القصة أسرع وأقصر: تغريدة واحدة مجتزأة تُبنى عليها موجات من الهجوم على شيء لم يُقَل. يكتب شخص: “علينا أن نفهم خلفيات بعض القضايا الأخلاقية قبل الحكم”، فيرد آخر: “يعني تبرر الجرائم؟”، وهكذا تدور العجلة، والجمهور لا يرى الفكرة، بل القشّ المشتعل حولها.
وفي السياسة؟ مغالطة رجل القش تتحول إلى فن خطابي. دونالد ترامب على سبيل المثال، كان يتهم الديمقراطيين بأنهم “يريدون حدودًا مفتوحة تسمح للمجرمين بالدخول”، رغم أن حديثهم وفكرتهم الأصلية كانت عن “تنظيم الهجرة”، لا فتحها بلا قيود. لكنه بذلك يصنع خصمًا كارثيًا، ثم يتعهد بحماية الشعب منه. وهو ما يفسّره عالم الاجتماع زغمونت باومان: “السياسي الذكي لا يهاجم عدوًا حقيقيًا، بل يختلق عدوًا ثم يقدّم نفسه كبطل المواجهة”. ولعل مغالطة رجل القش من أسرع الطرق التي توصل لهذا الهدف.
وحتى في العلاقات الشخصية، رجل القش حاضر. تقول الزوجة: “أحتاج أن أجلس معك أكثر”، فيرد الزوج: “يعني أنا مُهمِل؟!”، أو العكس.صديقة تمتدح صديقتها :” زاد جمالك” فترد الصديقة :” تقصدين كنت غير جميلة؟!”
تُعاد صياغة المشاعر على شكل اتهامات، وتبدأ مشاجرة ما كان لها أن تبدأ لولا سوء الفهم المتعمد أو التأويل المبالغ فيه وهو باختصار استخدام مغالطة رجل القش.
أضرار هذه المغالطة لا تقتصر على خسارة النقاش، بل تتعداها إلى إفساد المناخ العام للحوار. فهي تُضعف الثقة، وتخلق صورًا زائفة عن الآخرين، وتعزز الانقسام. وفي النهاية، تكون الحقيقة هي الضحية الأولى.
التعامل مع هذه المغالطة لا يحتاج إلى انفعال، بل إلى حزم هادئ وعدد من الخطوات، الخطوة الأولى: تحديد وتوضيح ما قيل فعلاً. “هذا ليس ما قلته، ما عنيته هو…”.
تليها خطوة ثانية: كشف التحريف أمام الآخرين لأن ذلك يكشف الأسلوب والنية. لا تخف من أن تقول: “هذا تحريف لكلامي، هذه مغالطة رجل قش”، فالتسميات الدقيقة تُضعف التأثير العاطفي للتحوير.
ثالثًا: لا تدخل ساحة المعركة التي صمّمها الطرف الآخر؛ فالرد على كلام لم تقله، يعني القبول بإطار النقاش المزيف. رابعًا : إرجاع النقاش إلى جذوره: بدلاً من الانجراف، أعد الحديث إلى النقطة الأصلية. لا تضرب القش، بل احرص أن لا يُصرف الانتباه عن الفكرة الأصلية.
ممكن أيضا أن تطلب الدقة من الاخر بحزم : اسأل الطرف الآخر بلغة هادئة: “هل يمكنك تكرار موقفي كما فهمته أنت؟” وغالباً ما يكشف السؤال أن فهمه كان مشوهًا.
في النهاية، يقول كارل روجرز: “حين يُساء فهمك عمدًا، لا تُجهد نفسك في إقناع من لا يريد أن يفهم. بل وجّه صوتك لمن لا يزال يبحث عن الحقيقة”. والحق أن معاركنا اليومية لا تُهزم فيها الحقيقة بالمنطق، بل بالتشويه، تمامًا كما يحدث لرجل القش، حين يُضرب أمام الناس وهو لا يملك لسانًا ليدافع عن نفسه.
فهل نمتلك نحن شجاعة الدفاع عن ما قيل فعلاً، لا عن ما اختلقه الآخرون؟ وهل نجرؤ على رفض الانجرار وراء القشّ، لنعود إلى ما أخفي تحت الرماد: الفكرة الأصلية؟
لم أرَ أصدق من هكذا مقال لبحكي صراعات فكرية مشوهة ورداءة فهم جوفاء ، نحن محاطون بمثل هؤلاء حياتنا لكنك بمقالك هذا فتحتي النافذة لتدخل الشمس ونجد معك بقعة ضوء نهرب إليها من هؤلاء المشوهين فكرًا وفهمًا
شرحتِ المغالطة، وفضحتِ الحيلة… رجل القش ما له ملجأ و لا مخرج بعد اليوم ، أحرقتيه ي ثُريا المبدعة .
صدقيني رجل القش راح يقرر يعتزل بعد مقالك!
ثريا الشهري لا تكتب، بل تفضح الزيف بكلمات كالسيوف.
حوارها ليس رأيًا عابرًا، بل صرخة وعي في وجه من يختبئون خلف القش.
أبهرتني، 🙏🏻🙏🏻🇸🇦 فخور فيك
ابدعت ياثريا كعادتك ،، مقال ثرى من قلم حر مفكر متأمل 👏
مقال رائع وفعلا هذا مانواجهه الان كثيرا المقال يعرض مشكله نواجهها الان ويحلل اسبابها بصوره واعيه وطريقه حلها ورقي الوعي المطلوب أنا أشوفه مقال رائع من انسانه تمتلك وعي جميل ابدعتي عزيزتي واتمنى لك مزيدا من المقالات الجميله وينتشر هذا الوعي 🌹