“عقدة أطلس ” حين يصبح حمل العالم عبئاً نفسياً



ثريا الشهري

في الأساطير الإغريقية، حُكم على الجبار “أطلس” بأن يحمل قبة السماء على كتفيه إلى الأبد، عقاباً له على تمرده. وفي عالمنا المعاصر، يعيش بيننا أناس يحملون عبئاً مشابهاً، ليس قبة السماء، بل مسؤولية العالم ومن فيه. هذه الحالة النفسية، التي يسميها علماء النفس “عقدة أطلس”، هي نمط سلوكي يغلف الإرهاق الداخلي بقناع القوة والاعتمادية.

قناع القوة والإرهاق الخفي ،قد يبدو الشخص الذي يعاني من عقدة أطلس كعمود فقري لا يلين، هو الملاذ الآمن في الأزمات، والصديق الذي لا يخذل، والزميل الذي لا يقول “لا”. إنه الشخص الذي يمد يده دون تردد، ويشعر بمسؤولية مباشرة عن راحة وسعادة الآخرين. هذا الاعتماد المفرط عليه يمنحه شعوراً بالقيمة، لكنه في الحقيقة يستهلكه ببطء من الداخل.

هولاء الأحباء يعيشون تحت ضغط نفسي هائل، مدفوعين بصوت داخلي صارم يقول: “إن لم أتحمل أنا، فلن يتحمل أحد”. هذا الشعور بالاستبدال والضرورة المطلقة يمنعهم من طلب المساعدة أو حتى أخذ قسط من الراحة، ويجعلهم يعتذرون بشدة عن أي تقصير لحظي، وكأن التوقف عن العطاء هو خطيئة لا تُغتفر.

جذور العبء: متى يبدأ الطفل بحمل السماء؟
غالباً ما تُغرس بذور هذه العقدة في مراحل الطفولة المبكرة. عندما يُجبر الطفل على تبني دور “الكبير” أو “العاقل” قبل أوانه، أو ينشأ في بيئة اعتمدت عليه عاطفياً أو عملياً أكثر مما تسمح به مرحلته العمرية. يتعلم هذا الطفل أن قيمته مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقدرته على تحمل المسؤولية وتقديم الدعم.

ومع مرور السنين، يتحول هذا الدرس المبكر إلى نمط حياة قسري: لا مجال للضعف، لا مساحة للراحة، ولا مبرر لطلب المساعدة. يصبح الشخص محاصراً بدائرة مفرغة من العطاء المنهك، خوفاً من أن يؤدي التخلي عن هذا العبء إلى فقدان قيمته أو خذلان من يحب.

التحرر من الأسطورة: القوة في المشاركة لا الانفراد . إن هذا النوع من “القوة” ليس بطولة حقيقية، بل هو استنزاف بطيء للنفس. فالشخص الذي يحمل العالم على كتفيه يعيش متعباً، محاصراً بشعور دائم بالذنب إذا لم يكن “موجوداً” للجميع طوال الوقت، وغالباً ما ينسى أنه هو أيضاً يحتاج إلى من يحمله أحياناً.

التحرر من عقدة أطلس لا يعني التحول إلى الأنانية أو التوقف عن العطاء. بل هو إعادة تعريف للقوة. القوة الحقيقية تكمن في إدراك أننا لسنا مطالبين بحمل كل شيء وحدنا.

خطوات نحو التوازن:

1. تعلم قول “لا”: دون الشعور بالذنب، فرفض طلب لا يعني رفض الشخص، وهناك طرق كثيرة وأساليب عديدة لقول لا سواء بطريقة مباشرة او منمقة بناءً على من تُقال له .

2. طلب المساعدة: الاعتراف بالحاجة إلى الدعم هو شكل من أشكال القوة، وليس الضعف.

3. تحديد الحدود: وضع خطوط واضحة بين مسؤولياتك ومسؤوليات الآخرين.

4. منح النفس حق الراحة: الحياة ليست اختباراً للتحمل، والراحة ضرورة وليست ترفاً.

في الختام، يجب أن نتذكر أننا لم نُخلق لنحمل العالم على أكتافنا بمفردنا. نحن هنا لنتقاسم الثقل، ونمنح بعضنا البعض لحظات من السكينة. فالمشاركة في حمل العبء هي جوهر العلاقات الإنسانية الصحية، وهي الطريق الوحيد لضمان ألا ينهار أطلس الداخلي تحت وطأة المسؤولية.


5 /5
Based on 7 ratings

Reviewed by 7 users

    • 4 أيام ago

    رائعة دائماً ياثريا ،وأعتقد أن المقال لمس نقطة عميقه لطالما تجاهلتها بالعمد مع علمي بوجودها ولكن يقيناً أصبح لابد من التوازن

    • 5 أيام ago

    Robica~

    الإنهاك قدر من يتقدّمون الصف دائمًا… كأنهم الوحيدون ، وهم يعلمون أنهم ليسوا كذلك .!
    لوهلة اعتقدت أن الأطلسيون ربّما يكنون في قرارة أنفسهم شيئًا يدفعهم إلى تقديم أرواحهم ” قربانًا رخيصًا ” فيمضون مثقلين برفضٍ قاسٍ لذواتهم.
    كعقوبة بلا ذنب يُذكر ، كانتقام من مضي ليلة هادئة ، يميلون للبؤس والرخص والإرهاق أكثر مما يجدون أنفسهم في سكينة وسلام !
    روح تظن أن قيمتها فيما تقدم لا فيما هي عليه !
    لا أتعاطف معهم ، ربما مزيد من الألم كفيل بإنقاذهم.
    كاتبتنا الاستثنائية حضر التفرد في رُقيّك وازدانت الراية في جديدكِ ، كتبتِ فأبدعتِ ،
    كل الشكر لثرياتِ القلب♥️

    • 5 أيام ago

    كلمات من ذهب استاذه ثريا 👍🏼

    كم من فتاه تربت على ان تكون عقدة اطلس هي المحور الأساسي للأمومة وتم غرسها بها من الطفوله كي تشعر بأنها ام صالحه .اتمنى ان ينالها نصيب من الإدراك قبل نصيب التعب .

    • 5 أيام ago

    القوة في المشاركة لا الانفراد .
    🤍🙏🏻.

    • 5 أيام ago

    [email protected]

    ثريا
    أبدعتِ في طرحكِ لعقدة أطلس، ولامستِ بعمق ذلك التناقض بين قناع القوة والإرهاق الخفي. تناولتِ الجذور، والعبء، والتحرر بأسلوب أدبي ناضج يجعل القارئ يرى نفسه بين السطور.
    نصّكِ حكيم، رشيق، ويُضيء الفكرة بوعي وإنسانية. مبدعة كعادتكِ.

    • 5 أيام ago

    قمة في الابداع والتميز .. شكرًا لك على هذا المقال الجميل اللي لامس شيء كبير في داخلي، واصلي لان كلماتك دائمًا الاحب على قلبي

    • 5 أيام ago

    ي بنتي انتِ مدرسة عظيمة بكل مقالة تكتبيها تبهريني 🤍

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • Rating


مواضيع ذات صلة بـ “عقدة أطلس ” حين يصبح حمل العالم عبئاً نفسياً

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الراية الإلكترونية © 2018 - 2025

تصميم شركة الفنون لتقنية المعلومات