كيف تعالج نفسك بالمعنى ؟  



المستشار ” ابكر سليمان “

“يوجد شيء واحد يروعني وهو: ألا أكون جديرا بآلامي” دستيوفيسكي.

كان كل شيء نائمٌ هناك ؛ الا أفكاري .

صباحاً استيقظت على موعدي المعتاد اقتلع نفسي اقتلاعاً من السرير!

ذاكرتي مثقلة بهموم الأمس ، أحلامٌ تحطمت و آمالاٌ أنطفأت .

كنت قد قدمت استقالتي من وظيفتي التي أحببتها كثيراً ، لم يكن الأمر سهلاً علي البتة خاصةً انني في أول فجر الشباب إذ الأحلام كثيرة و الفرص قليلة .

أخذت اتصفح هاتفي المحمول هرباً من هذه الورطة لعلي أظفر بما يخفف عني وطأة هذا الخطب الجلل ، لقد كان كل شيء موحشاً بشكل يبعث على الإستغراب !

((الله وحده يعلم . وحده يعلم كيف سينتهي هذا الامر ))!
شرعت أردد هذه الجملة و أنا أقطع الغرفة طولاً وعرضا.

عدت الى غرفتي مرةً أخرى ، ارسلت يدي مستنجداً-بهاتفي-فهواتفنا هي الأخرى قد تكون ملاذاً لنا في زحمة الحياة .

لمحت في هاتفي مقطع بعنوان (هل يختار الانسان من يكون!؟)
عدت لأسألني : هل يختار الانسان من يكون ..؟
لم أهتد الى شيء..

“ان هذه الحياة كلما كانت شاقه واستطاع الإنسان أن يُوجد لنفسه معنى بداخلها كان ذلك أمارة على غِناء حياته الداخلية، “فإذا كان هناك معنى في الحياة بصفة عامة، فإنه بالتالي ينبغي أن يكون هناك معنى للآلام والمعاناة، فالآلام والمعاناة جزء من الحياة، بل ويتعذر التخلص النهائي منها، شأنهما شأن حياة الإنسان ذاته!”

“أما من يفقد حياته الداخلية فإنه يفقد الثقة في المستقبل، بل قد حكم على نفسه بالفناء، ومع فقدان الثقة في المستقبل يفقد المرء تماسكه المعنوي، ويكون بذلك قد ترك نفسه للتدهور، وأصبح عرضة للانهيار العقلي والجسمي”.

لحظة
تلك ليست عبارات تحفيزية يتغنى بها شخص قابع خلف مكتبه المرفّه ، يمرر اصابعه على لوحة المفاتيح و هواء التكيف يعانق جسده الفائح بعطرٍ من أغلى الماركات!!

انها تجربة لإنسان عاد من الموت ! فبين عشية وضحاها وجد فرانكل نفسه رقما في معسكرات يسير الناس فيها بأجساد تغطيها خِرق بالية “فلم أكن سوى الرقم 119 و104، ولم نكن نحمل أي وثائق ، فيكفي كل فرد أن يملك جسده ورقمه” هكذا وصف فكتور فرنكل حاله داخل المعسكرات النازية. اذ “من الصعب تماما على أي شخص خارجي أن يدرك كيف أن الحياة الإنسانية في المعسكر لم يكن لها قيمة تذكر”. في ذلك المكان سترى الموت أمنية عزيزة المنال .

يسألني بعض الأصدقاء كثيراً ؛ ماذا استفدت من الوعي وانت الذي لا تنفك تتغنى به في كل محفل؟

(لا أدعي انني ربحت الكثير ، لكنني أزعم انني تحررت من الكثير. تحررت من تلك الأشياء التي لا تمت لي بِصلة ، فأنا على الاقل لم أعد أخوض في ساحة حربٍ ليست لي .

أدركت ان لكل واحد منا نصيبٌ من الهم، وان ( ما يحدد مستوى وعينا ليس ما يحدث ، بل طريقة نظرتنا لما حدث) فكرةٌ في ذلك -المقطع – الذي ساقه الله لي هي التي أنقذتني من لهيب الأفكار التي كانت تنهش ذاكرتي ، لقد دفعتني مرة أخرى الى الحياة فأدركت وان كنت قد خسرت وظيفتي فهنذا ماثلٌ امام ذاتي بكامل قواي لقد أرتويت بهذه الفكرة ، و ظمأ الضياع لا يرويه الا ماء الوعي.

نعم ان “هذا العالم بالنسبة للشخص الخائف ليس الا مكاناً للرعب ، وبالنسبة للشخص الذي يصاحبه الشعور بالذنب ليس الا مكاناً للعار “، اما بالنسبة للشخص الواعي اليقظ فهي تجربة تستحق ان تعاش ، وهذا ما يدعو اليه الفيلسوف إبيكتيتوس أحد مؤسسي المدرسة الرواقية اذ يقول اننا :” نتحمل مسؤولية بعض الأشياء، لكن ثمة أشياء لا يمكن أن نتحمل مسؤوليتها؛ وتشمل الأولى على أحكامنا ودوافعنا ورغباتنا وقوانا العقلية في العموم، والأخرى على الجسد والممتلكات المادية وسمعتنا ومناصبنا ، باختصار أي شيء خارج عن سيطرتنا”

انها ليست مجرد عبارات منمقة بل هي وليدة معاناة عاشها ابيكتيتوس شخصياً!

“فـذات مرةٍ أراد سيده أن يستمتع بطريقة غريبة ، فأخذ في لي ساق عبده بآلة للتعذيب !

فكان إبيكتيتوس يقول ” إنك ستكسر رجلي يا سيدي!
لكن إبافروديت لم يتوقف واستمر فيما كان فيه ، ولكن إبيكتيتوس تحمل الأمر بصبر دون أن يبدي أي اضطراب حتى كُسرت ساقه.

وحينها حدث سيدَه قائلا: “ألم أقل لك يا سيدي أنك ستكسرها!؟”

يؤمن ابكتيتوس “أن السيد يمكن أن يصبح عبداً لهواه ، والعبد يمكن أن يصبح حراً في استقلاله الروحي الداخلي؛ ومع ذلك فإن هذه الحرية لا يمكن تحقيقها بتغييرالعالم! فليست الأشياء ذاتها، بل الأفكار التي يكونها الإنسان عنها هي التي تجعله سعيداً”.

وهذا ما توصل اليه فرنكل بالتجربة المريرة التي كابدها. تلك الآلام التي كادت أن تعصف بكيانه ، فما الذي يمكن ان يفعله الانسان حينما يتحقق فجأة من أنه “لا يملك شيئًا يفقده عدا حياته المتعرية بطريقة تبعث على السخرية” بعد ان فقد أغلى ما يملك (والداه ، زوجته و أصدقاءه) لكنه استطاع في نهاية معاناته أن يصوغ معنى جديداً للحياة ، لقد خلّد فرانكل تجربته في سجون النازية ، إذ من رَحم هذه المعاناة أصبح فرانكل صاحب إسهام في علم النفس الوجودي حتى أسس مدرسة “العلاج بالمعنى” Logotherapy- والتي استوحى مبادئها من تجربته الذاتية. في كتابه “الإنسان يبحث عن معنى” .

يقول – فرنكل- “في احدى الصباحات المشرقة في ذلك المعسكر المظلم ، حيث الذخائر حية و الضمائر ميتة . خرجت الى الساحة ، فكانت الشمس قد مسحت بضوئها على الأرض فارتسمت ابتسامة الفرح على وجهي وبقيت للحظات مريلاً بصري للسماء !
ثم بدأت تتزاحم في ذهني بعض تساؤلات ادارت رأسي ومعها فيضانات من المعاني و الاستطلاع و القلق و الدهشة !
( كيف ابتسمت؟!
كيف فرحت ، وانا في قلب هذه المعاناة!؟
كيف حدث هذا وانا كل ما اعرفه اننا لسنا سوى خبز للموت ذي البطن الذي لا يشبع!
يقول : عندها استنتجت معناً لا مناص منه وهو: ان الفرح ينبع من الداخل وان “هذا العالم قد يسلب منك كل شيء تملكه الا شيءٌ واحد . شيءٌ واحدٌ فقط ، ارادتك الحرة تجاه الحياة”

وهذا المعنى جعلني أشعر بالروح تدب في أعضائي من جديد كجثة جرت فيها الحياة بعد طول موات. فلا وجود للمرء بغير حريته ، و لا حرية بغير مسؤولية ، و قمة تحقيق الذات هي النهوض بالمسؤولية .

“إلهي امنحني السكينة لتقبُّلِ الأشياء التي لا أستطيع تغييرها،
والشجاعةَ لتغيير الأشياء التي يُمكنني تغييرها ، والحكمةَ لمعرفة الفارِق بينهما”( دعاء السكينة) وتعود أقدم نسخة وجدت إلى الفيلسوف الرواقي «أبكتيتوس» الذي عاش في القرن الثاني في روما.

إن إبيكتيتوس، والرواقية بشكل عام ، تؤكد على دفع الرغبات والانفعالات الداخلية ولكنها قبل كل شيء فلسفة للحرية الداخلية والإرادة .

” فالمشكلة عندهم لا تكمن في العالم الخارجي وإنما في عالمنا الداخلي الذي يجب أن نروضه على تقبل القدر واستقباله دون جزع” !

يتجسد هذا المعنى في حياة -ابكتيتوس- فقد ولد عبداً وقد عانى أيّما معاناة ! لكنه لم يستسلم لواقعه حتى أصبح أحد أشهر ممثلي الفلسفة الرواقية فقد كان فيلسوفًا رواقيا بارزًا ، وقد تكرم عليه سيده إبافروديت بأن منحه حريته تزامنا مع حصوله على لقب فيلسوف . فعندما تجد القابلة أن الحبلى لا تتألم أثناء المخاض، فإنها تعرف أن الطريق ليس سالكا بعد لوليدها، فلن تضع وليدها إذن ، ولكي تولد نفس جديدة ، يجب أن يكون ألم ” كما يقول ابن الرومي.

نعم أدرك ان الحياة قد لا تستمر كما كانت عليه بعد ان خسارة شيء ذا أهمية عندنا ، لكنني أدرك في ذات الوقت ان التخلي عن الأشياء أحياناً هو فعل ينطوي على قوة أعظم بكثير من الدفاع عنها أو التمسك بها ، وأزعم ان هذا من عمق الإيمان بالله !
ان تتعلق بخالق الأشياء ! وليست الأشياء ذاتها!
فأنت ان تعلقت بشيء صرت له عبدا ، وهو لا يرضى ان تكون لغيره عبداً .

هذا المعنى الذي اهتديت اليه سراً سأتخذ منه ذخيرةً أواجه بها أيامي العجاف ، معناً أشعل النار في خيالي و أحلامي و ألصق أذني بموسيقى سماوية و ألوان فردوسيه تحرك ما ركد في أعماق الروح.

ان إيجاد المعنى لا يعني بالضرورة (ان تموت في سبيل ما تحب ، بل في ان تحيا في سبيل ما تحب )! ففي معاناة السجن يقول فرنكل “لقد راودت كل واحد من المساجين في لحظة ما، فكرة التخلص من حياته ، وهو ما دفع فرانكل لأن يُوجه لمرضاه سؤال “لماذا لا تنتحر؟!” ليهتدي من إجاباتهم إلى خيط الحياة النابض . وعلى هذا السؤال تباينت الإجابات، فمنهم من لم ينتحر بدافع الحب الذي يربط بينه وبين أبنائه ، وآخرون شعروا أن لديهم موهبة عليهم أن يستخدموها هي الدافع للحفاظ على الحياة ، بينما عبر غيرهم عن امتنانهم إلى الذكريات ، والتي كانت عامل الأمان بالنسبة إليهم. إجابات قادت فرانكل ليعتبر أن العامل المشترك بين هؤلاء جميعا هو-المعنى- في الحياة، أيمّا كان هذا المعنى ، وعليه فإن أولئك الأشخاص الذين كانت حياتهم الداخلية ممتلئة وحيوية استطاعوا أن يحافظوا على المعنى بداخلهم.

“فويل لمن لم يكتشف معناً لحياته ، ويل له من نفسه ومن العالم “.

ويذكر فرانكل انه “كلما صارت حياة السجين أكثر عمقا، صار السجين أكثر نزعةً إلى أن يَخْبر جمال الفن والطبيعة بطريقة لم يعهدها من قبل”.

ويقول : “بعد فترة وجيزة في المعسكر بدا لي أني سأموت قريباً ، وكان السؤال الشاغل للزملاء: هل سنبقى أحياء بعد الموت؟! حتى تكون لهذه المعاناة معنى!

أما السؤال الذي شغلني: “هل لكل هذه المعاناة من حولنا معنى؟ وللموت من حولنا معنى؟ إذا لم يكن الأمر كذلك فليس لبقائنا أي معنى!”.

فلا تنشغل يا صاح بما تتمنى بلوغه في هذه الحياة ، بل بما تستطيع تقديمه للحياة وحينها فقط ستشعر بمعنى حياتك فالإنسان وكما تنص -نظرية العلاج بالمعنى – ” إنَّ وجد سببا يحيا به ، فإن في مقدوره -غالبا- أنْ يتحمل في سبيله كل الصعاب بأي وسيلة من الوسائل”.

فإذا كانت الحياة ساحة حربٍ كبيرة! فحينها يجدر بِنَا أن نختار معاركنا.
فأختر معاركك !