لقد أسأت فهمي !



ثريا الشهري

قرأت لكاتب موضوعًا عن عدم الفهم وسوء الفهم وكيف أن (عدم الفهم) مرتبة أقل سوءًا من (سوء الفهم) .

حتى وإن كان لي شيء من التحفظ بالنسبة للكثير مما ورد في الموضوع، إلا إنني توقفت عند شرحه للتماهي بين عدم الفهم وسوء الفهم، ووجدت أن هذا هو بالفعل ما يحدث لدى الكثير في مجتمعنا سواء على المستوى الفكري والتيارات الفكرية أو حتى على مستوى العلاقة بين الأجيال؛ بل إني أخال أنه من الأسباب الرئيسية التي تعقد كثيرًا من أمور حياتنا، وعلاقتنا مع الآخرين، وتسبب لنا الكثير من الخلافات والإشكالات.

ولتوضيح مقصدي، فأنا أورد ما كتبه، وأرى أن هذا الكاتب يجيد التنظير.

فقد كان مما قال ليشرح لنا هذا التماهي الحاصل: (سأضرب لذلك مثلاً من عالم الإشارات يوضح حجم المسافة وخطورتها بين عدم الفهم وسوء الفهم. مثلًا : إشارات المرور الموجودة عندنا تتضمن تشكيلًا دالًا: (أخضر، أصفر، أحمر) وتشكيلًا مدلولًا: (عبور، استعداد، وقوف).

لنفترض أننا سافرنا إلى بلد ما؛ فيه التشكيل الدال (إشارات المرور) يتألف من علامات أخرى غير الألوان التي عندنا، فمن المفترض أننا إزاء هذا الاختلاف أن نقوم بإجراء عقلي تجاه هذا الدال. أولاً: التأكد من وجود الدال وأنه إشارة مرور. ثانيًا: محاولة البحث عن مدلول إشارات الدال بغية التعرف عليها وفهمها والتعامل معها. وفي هذين المقامين نحن في حالة (عدم الفهم) لعدم معرفة الدال وفهم مدلوله ! فعدم الفهم يدفع للبحث والتقصي للحصول على الفهم .

أما في حالة وجود الدال (إشارة المرور) الذي يتألف من ذات الإشارات التي نعرفها في بلادنا ولكن الأحمر مدلوله (عبور) والأخضر مدلوله (وقوف)، فحينما نرى هذا (الدال) دون أن تكون لنا أدنى فكرة حول معاني (مدلوله) والتي تختلف تمامًا عما نعرفه في بلادنا، فيعني التعاطي مع هذا المدلول بالخلفية القديمة (الأحمر=وقوف) و(الأخضر=عبور) والتعامل معه بتلك الخلفية المغلوطة يساوي التعرض للأخطار القاتلة حالاً ومآلاً. وهذا السلوك يسمى (سوء فهم) الناتج عن اعتقاد جازم بفهم تلك المدلولات وصحة ربطها بالدال، بينما الحقيقة العلمية والعملية تعتبر هذا الاعتقاد مخالفًا للحقيقة وزعمًا لا مكان له في إطار المنظومة المعرفية. ويترتب على (سوء الفهم) بأن المتلبس بهذا الزعم مسؤول مسؤولية كاملة عن الأخطار التي لحقت وتلحق به وبغيره !)

وعلى ذلك، لو نظرنا على سبيل المثال إلى العلاقة المتوترة بين بعض الآباء والأمهات وأولادهم المراهقين لوجدنا أن ما يحدث هو وجود تصرفات وسلوكيات تحدث من الأبناء وهي (الدال) فيكون ناتج التعاطي مع المدلول المغلوط عند الآباء كرد فعل لتلك السلوكيات، والتعامل معه بتلك الخلفية غير المتفهمة لمرحلة النمو وما تتطلبه يكون الناتج: أولاً علاقة متوترة وفجوة ثقافية ونفسية بين الآباء وأبنائهم، وثانيًا: ندوب لا تزول من نفسية الابن أو الابنة الذين تظهر عليهم بعض السلوكيات لمحاولة التنفيس (فقط لا غير!) من ضغوط المرحلة العمرية والتي تمارس سلطتها على المراهق من الناحية الفسيولوجية والسيكولوجية.

لذلك، يجب التنبيه على ضرورة توعية الآباء لتفهم متطلبات أولادهم من الجنسين ومحاولة فهم احتياجاتهم والاحتواء الحاني لهم، والقراءة ثم القراءة في الكتب الموثقة والمهتمة بهذه المرحلة العمرية وكيفية التعامل معها، ومعرفة السمات الأساسية لها حتى يتخطى المراهق تلك الفترة بكل أمان، وبذلك نحصل على جيل سليم معافى من الأضرار الناتجة عن إهمال طيش الصبا.

ولا أنسى الأبناء أيضًا لأنه يجب عليهم أيضًا أن يفهموا أن ما يمرون به من تغيرات وما يرافق هذه التغيرات من ضغوط نفسية وتحولات جسدية ليست سوى أمور طبيعية جدًا لابد أن يعيشوها. وفي فهمهم لها تخفيف من قسوتها.

ولا يقتصر أمر الفهم بالطبع على ما سبق، بل ينطبق على بقية العلاقات الاجتماعية، بل ينطبق أيضًا على علاقة الشخص مع نفسه.


    • 8 أشهر ago

    بورك قلمك أ. ثريا 🌠🌠 👍🏻

    • 8 أشهر ago

    مقالٌ مثري كصاحبته ثريا، تبارك علمك وسلمت يدك

    • 8 أشهر ago

    ثُريا، إبداعك دائمًا يحمل بصمتك الجميلة، أسلوبك سلس وعميق في آنٍ واحد، وكلماتك تنساب برقة تجعل القارئ يشعر وكأنكِ تحاكي روحه، لديكِ قدرة مدهشة على إيصال المعاني بوضوح ودفء، وكأن كل حرف ينبض بإحساسك. استمتعت جدًا بقراءته، وأنتظر دائمًا المزيد من إبداعكِ الذي يلامس القلب و العقل.

    • 8 أشهر ago

    تحبة طيبة أستاذتنا ثريا ..
    مقالك طرح بعمق الفرق الجوهري بين “عدم الفهم” و”سوء الفهم”، وأعجبني تشبيهك الدقيق بإشارات المرور، الذي أوضح كيف يمكن للافتراضات الخاطئة أن تقود إلى نتائج خطيرة.

    إسقاطك لهذا المفهوم على العلاقة بين الأجيال، خاصة بين الآباء والمراهقين، كان في غاية الأهمية. فكثير من التوترات تنبع من سوء فهم السلوكيات بدلًا من السعي لفهمها بوعي ومرونة. دعوتك لتثقيف الآباء والأبناء على حد سواء تعكس رؤية متزنة تسهم في بناء جسور التفاهم.

    مقالك تذكير مهم بأن الفهم لا يقتصر على الآخرين، بل يمتد إلى علاقتنا بذواتنا، مما يجعله أداة أساسية للوعي والنضج.

    شكرًا لهذا الطرح العميق والمُلهم.

    مع التقدير والاحترام.

    • 8 أشهر ago

    كفيتي ووفيتي اللهم بارك

    • 8 أشهر ago

    مقال تشكرين عليها كثيرًا الكاتبة المتالقة ثريا 🤍

    • 8 أشهر ago

    المعرفة الغير جيدة والغير واضحه للشخص الاخر تسبب اساءة الفهم
    التوتر بالعلاقات يسبب اساءة الفهم وزيادة التوتر
    لذلك لابد من الحديث بوضوح وبهدوء اذا اردت ان لايكون هناك اساءة للفهم
    فعلا مقال نحتاجه بقوه مع الوتيرة السريعة في حياتنا

    • 8 أشهر ago

    متألقه فكرياً ومؤثره روحياً دائماً تتركين بصمه مختلفه واثراً بالروح .. انتي من الاشخاص لايمكننا نسيان ملامح عقولهم .. الكثير من الوعي الذي صقل هذا الجمال والابداع .. وليس غريبا لمثلك ان تحظى بنصيب من اسمها .. دمتي ودام قلمك بخير

    • 8 أشهر ago

    لافض قلمك أيتها المبدعة ثريا ليس غريبا على قارئة مثلك أن تخرج مفالا تربويا فلسفيا أنيقا مثل مقال ( أسألت فهمي ) دمت ذات قلم يبهج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • Rating


مواضيع ذات صلة بـ لقد أسأت فهمي !

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الراية الإلكترونية © 2018 - 2025

تصميم شركة الفنون لتقنية المعلومات