بين مطرقة الكمال وسندان الرضا: متلازمة خفية تهدد جودة الحياة



ثريا الشهري 

هناك فكرة شائعة، تتسلل بهدوء في أذهان الكثيرين: أن النجاح لا يُحتفل به إلا حين يكون مكتمل الأركان، متقنًا بلا شائبة. غير أن هذا التصور مهما بدا محفزًا للإنجاز قد يتحول إلى عبء نفسي ثقيل، يُفقد الإنسان متعة التجربة والانجاز ولحظة الرضا. هنا تظهر متلازمة يعاني منها كثيرون دون وعي، تُعرف بـمتلازمة الكمال.

هذه المتلازمة لا تعني مجرد حب النظام أو السعي للتفوق، بل هي حالة نفسية تتسم بالتفكير المثالي المفرط، وعدم القبول بأي نتيجة تقل عن الكمال المطلق. الأمر الذي ينعكس سلبًا على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية، ويحدّ من جودة الحياة بشكل غير ملحوظ لكنه متراكم.

يقول الطبيب النفسي د. بول هيويت:

“الكماليون لا يطلبون الأفضل من الآخرين فحسب، بل يعاقبون أنفسهم حين يخطئون، وكأنهم ممنوعون من الخطأ بطبيعتهم.”

ويؤكد الفيلسوف آلان دو بوتون أن:
“أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان، هو أن يكون رهينة لفكرة مثالية لا وجود لها خارج مخيلته.”

علامات هذه المتلازمة تظهر في أبسط المواقف :خوف مبالغ فيه من الفشل، تردد دائم قبل اتخاذ القرارات، القلق من نظرة الآخرين، الإحساس بأن أي إنجاز ما يزال ناقصًا.

والأخطر من ذلك، أن صاحب هذه المتلازمة يُسقط مثاليته على المحيطين به، فيطالبهم بما يعجز هو عن تحقيقه لنفسه. وبهذا ينشأ نوع خفي من العلاقات المتوترة التي تُبنى على توقعات غير واقعية.

كيف نتحرر من هذا القيد؟
البداية تكون بإدراك الفارق بين التحسين المستمر، وبين مطاردة الكمال. أن نتقبل أن الإنسان كائن ناقص بطبيعته، وأن القبول بهذا النقصان لا يعني ضعفًا بل وعيًا.

يقترح الطبيب النفسي د. دايفيد بيرنز تقنية “إعادة تقييم الأفكار المثالية”، من خلال كتابة توقعاتك، ثم مراجعتها وفق منطق عملي متزن.

وفي هذا المعنى، قال الفيلسوف ميشيل دي مونتين:
“الكمال أفق لا يُدرَك، وكلما اقتربت منه، ازداد بعدًا.”

وأخيرًا : قارئي الكريم، إن الحكمة كل الحكمة، أن تُحسن السعي، ثم تُسلّم النفس لما أدركت، وتُرضيها بما تيسّر، فما أكثر من ضلَّ عن درب الرضا، طلبًا لما لا سبيل إليه.

فهل آن أوان أن تلقي عن كاهلك ثقل هذه المثالية الواهمة؟

الحكمة لا أن تصل إلى أعلى، بل أن تعرف متى يكفي.


    • شهر واحد ago

    مقال مميز جداً! أسلوب الطرح راقٍ ومحتواه ثري بالمعلومات والتحليل العميق. استمتعت بكل سطر فيه، ولفتني الوضوح والاحترافية في تناول الموضوع. شكراً لكاتبة المقال ثريا على هذا الإبداع، ولصحيفة الراية على نشر محتوى بهذا المستوى الرفيع.

    • شهر واحد ago

    سلمت يمينك ثريا فكراً جميل ومقال هادف

    • شهر واحد ago

    مقالك عن الكمال لامس قلبي، لأنه عبّر عن صراع عشته طويلاً. أعجبني جدًا طرحك الواضح والعميق للمشكلة، والأجمل أنك قدمت حلول تلامس الواقع وتفتح باب للرضا والسلام الداخلي. ممتنة لك من القلب ثُريا .

    • شهر واحد ago

    كلام يلمس اعماق كل انسان بحقيقه واقعيه لا يمكن ادراكها الى ان اقراء كلماتك ف تضيء روحي. ثريا كلمات رائعه 🤍

    • شهر واحد ago

    مقاله جمييييله بجمالك ثريا كماعهدنامقالتك غايه في الروعه وموضوع جميييل اتمنى الاستمراريه بمقالات اجمل واجمل.
    اتمنى لك من القلب ابداعآ يصل بك الى النجوم .

    • شهر واحد ago

    مقالة رائعة ، وفقك الله استاذة ثريا 👍🏻

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • Rating


مواضيع ذات صلة بـ بين مطرقة الكمال وسندان الرضا: متلازمة خفية تهدد جودة الحياة

https://a.top4top.io/p_3387cgp6g0.png

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الراية الإلكترونية © 2018 - 2025

تصميم شركة الفنون لتقنية المعلومات