قضاة وسلطة غير مرئية !!



ثريا الشهري

ثمة سلطة تحكمنا دون أن نراها، قوة تتسلل إلى تفاصيل حياتنا، تدير قراراتنا بصمت، وتنسج حولنا قفصًا من توقعات وأحكام لا تُقال، لكنها معلّقة في الهواء.

نعيش بين نظرات تراقب، وألسنة تتربّص، وقلوب تخشى الاختلاف.

فهل نحن أحرار فعلًا؟
وهل بمقدورنا يومًا أن نحاكم القضاة غير المرئيين؟

في هذا المقال، نفتح الملف المُسجّى بالصمت: “قضاة وسلطة غير مرئية”… حكاية السجن الطوعي والخلاص الممكن.

ثمة سلطات لا يقرها قانون، ولا تُعتمد من محكمة، ولا تصدر أحكامها مكتوبة، ومع ذلك تسير الناس تحت سطوتها كأنها ناموسٌ مقدّس.

إنها تلك القوى غير المرئية، التي تنبثق من أعين المراقبين، وألسنة المتربصين، ووشوشات بعض فئات المجتمع المتحفّز لالتقاط زلة، أو الانقضاض على المختلف.

نحن في حقيقة الأمر محاطون بمنظومة قضاة بلا عباءات سوداء ولا مطارق قضائية. قضاة ينتمون لسلطة النقد الاجتماعي، وضغوط التقاليد، وخوف الخروج عن القطيع. من لحظة الميلاد وحتى الغياب، يسير الإنسان بين محكمة التوقعات، ومحكمة الأعراف، ومحكمة “ماذا سيقول الناس؟”.

كل قرار يتخذه المرء  مهما بدا بسيطًا يمر في عقله على هيئة استدعاء غير مُعلن:

هل سيرضى عني هذا الجمع الصامت؟

هذه السلطة غير المرئية لا تتحكم فقط في سلوكنا الظاهر، بل تتسلل إلى دواخلنا فتشكّل طريقة شعورنا تجاه أنفسنا.

يصبح الإنسان مسجونًا في صورة مُفترضة للقبول الاجتماعي، ساعيًا لإرضاء معايير وُضعت له دون استشارته.

الغريب أن هذه السلطة، مع غيابها عن الحضور المادي، تملك من القوة ما لا تملكه سلطة رسمية فهي تُبقي البعض في زواج خاوٍ خوفًا من لقب “مطلّق”، وتدفع آخرين لوظائف لا يحبونها خشية نقد الأقارب، وتُرغم نفوسًا على الصمت أمام ألمها تجنبًا لشفقة الآخرين.

كيف نكسر هذه السلطة؟

أول خطوة لمواجهة قضاة المجتمع أن نُقرّ بوجودهم .

الوعي بآلية تسلطهم هو أول درع في يد الإنسان ضد هذه الأحكام غير المُعلنة. بعدها، على المرء أن يعيد تعريف قيمه الخاصة، بعيدًا عن مسطرة الآخرين.

لا بأس أن يكون صوت المرء أحيانًا نشازًا في جوقة الرأي العام، أو أن يسير عكس التيار طالما أن ذلك لا يجرح ضميرًا ولا يخالف مروءة ولا دين .

القوة الحقيقية ليست في تجاهل المجتمع كليًا، بل في وضعه في دوره الطبيعي ، أن نكون نحن من يختار متى نمنحه الحق في الحكم، ومتى نحرمه منه.

في النهاية، الحياة أقصر من أن تُهدر على ساحة قضاء لا تنتمي إليها.

في نهاية الأمر، لا أحد سيمشي دربك سواك ، وما من أحد سيحمل عنك وزر الخضوع، ولا ثمن الجرأة.

إن القضاة غير المرئيين سيظلون هناك، يحدقون، يتحدثون، يلوّحون بأحكامهم غير المكتوبة لكن الخيار دومًا بيدك:

أن تظل أسيرًا في محكمتهم، أو أن تخلع عنك أثواب الخوف وتمضي نحو حياتك الحقيقية.

فالحرية لا تبدأ من إسقاط القيود، بل من وعيك بوجودها.

“أخطر السجون .. ذلك الذي تُحكم قفله من الداخل”


    • 6 أشهر ago

    أسلوبك يحمل من الجمال ما يلامس الروح، ومن الفكر ما يوقظ العقل، مقال متكامل، صادق، ومُلهم، زادك الله تألقًا وبيانًا.

    • 6 أشهر ago

    مقال موفق وماتع من أستاذة متمكنة تتأمل الحياة بنظرة ثاقبة، مُنتقدة تناقضاتها بأسلوب سلس يلامس واقع معظم المجتمعات.

    دُمتِ في سماء الإبداع ثريا ✨

    • 6 أشهر ago

    جميل جداً مقال لامس الواقع الذي نعيش فيه سلمتي كم انتي مبدعة حفظك الرحمن 🌹🌹

    • 6 أشهر ago

    كالعادة ، تبهرنا الثريا بالتقاطاتها العميقة تشخيصاً وحلولا.. سلمت أناملك ..

    • 6 أشهر ago

    ثريا
    مقال عميق لامس( السلطه الخامسه) ان صح التعبير ، تلك السلطه الصامته والاشد تأثيرًا ، ذلك القاتل الاجتماعي الذي اوجد تابوهات اجتماعيه غير قابله للنقاش او للمفاوضه ،
    شكرا ثريا لطرقك هذا الباب ومشاركتنا الصوت

    • 6 أشهر ago

    مقال جميل .. قضاة وسلطة غير مرئية ..
    وبعد فترة نعتاد القيود ونبدأ بخلق قيود جديدة داخلنا وكأننا اعتدنا البقاء في قفص وهمي رسمته مخاوفنا ..

    • 6 أشهر ago

    مقالتك لامست شيء عميق نحنا فعلاً نعيش تحت ضغط المجتمع، نرفضه داخليًا لكن نستسلم له بدون مقاومة.
    وهذا هو الماتريكس… سجن غير مرئي نصنعه ونحيا فيه.
    التحرر يبدأ عندما ندرك إننا جزء من لعبة أكبر، ونسأل: من أنا قبل أن يُقال لي من أكون؟ هنا لازم ما نكتفي بالرفض الداخلي، بل نبدأ نعي ونفكك المصفوفة خطوة خطوة… كل فكرة متوارثة، كل توقع اجتماعي، كل دور مفروض علينا. نرجعه للجوهر، للأصل الذي نحنُ عليه قبل ما نُبرمج.
    أحييك ثُريتي على هذه المقالة دائمًا تصيبين الهدف.

    • 6 أشهر ago

    مقال رائع من انسانه رائعه ♥️

    • 6 أشهر ago

    عبارة تُسَطر بماء الذهب
    فالحرية لا تبدأ من إسقاط القيود، بل من وعيك بوجودها.👌🏼

    • 6 أشهر ago

    الله يسعدك ثريا مقال مثري جدا فعلا

    • 6 أشهر ago

    ابدعتي الغالية ثريا
    ولعجيب ان هؤلاء المتسلطين القضاه بعد فتره يفعلون ماكانوا يحرمونه على غيرهم
    فلعلا كما قلتي لايمشي دربك سواك
    اتركهم لانفسهم يترفعون ويحكمون ويحيكون ويعود اليهم مافعلوا

    • 6 أشهر ago

    رائع، أبدعت أ. ثريا في المعنى والأسلوب 👍🏻👍🏻 بفكرة تلامس الجميع ممن لم يدرك هذه القيود حتى لحظة قراءة المقال👍🏻

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • Rating


مواضيع ذات صلة بـ قضاة وسلطة غير مرئية !!

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الراية الإلكترونية © 2018 - 2025

تصميم شركة الفنون لتقنية المعلومات