الرز لا يُغني عن المكرونة !!
ثريا الشهري
كان الصباح هادئًا حين التفت إليها وهو يهم بالخروج إلى عمله وقال :
“اشتقت إلى مكرونتك المعتادة، هل تعدينها لي اليوم؟”
أومأت برقة، وبين عينيها وعدٌ لا يُقال.
مضى النهار ببطءٍ في عينيه، يركض بين المهام والساعات، وكلّه شوق لتلك الوجبة البسيطة التي تختصر له الطمأنينة، ويختزن في نكهتها معنى العودة والاهتمام.
عاد إلى المنزل على توقيت الانتظار، ففاجأه منظر المائدة: مفرش أنيق ومناديل فاخرة، أطباق تتلألأ، شموع تتراقص على إيقاع موسيقى ناعمة، وعطر الزهور ينساب في أرجاء المكان. كانت زوجته تقف هناك، كأنها لوحة من بهجةٍ صامتة.
لكن على المائدة، لم تكن المكرونة!
كان ثمة طبق أرزٍ متقن، تفيض منه رائحة العناية والجهد.
جلس، يحاول أن يخفي تردده خلف ابتسامة ممتنة، ثم سأل بهدوءٍ يخالطه الأسى: “أين المكرونة التي طلبت؟”
تبدّل وجهها، وذبلت فرحتها كما تذبل الشمعة إذا زاد الضوء عليها.
قالت؛ وقد انكسر في صوتها شيءٌ من خيبة الأمل:
“أما ترى كل ما فعلته لأجلك؟ الطعام شهي، المائدة أنيقة، والرائحة وحدها كفيلة بأن تشكرني!”
أجاب بصوت منخفض كمن يعتذر عن جرح غير مقصود:
“كل هذا جميل، وشهي… لكنني كنت أرجو فقط طبق مكرونة.”
أكل، وشكر، وأثنى على الطعم،لكن شيئًا في قلبه ظل جائعًا.
هذه القصة تتكرر كثيرًا في بيوتنا، صداقاتنا، علاقاتنا. نُقدّم الحب على طريقتنا، بلغتنا، لا بلغة الآخر. نُعطي ما نحب، لا ما يحتاج. ونغضب حين لا يُقابل عطاؤنا بالامتنان الذي نتخيله.
نمنح الحب بلوننا، بشهيّتنا، بذائقتنا. لا لخللٍ في مشاعرنا، بل لخللٍ في فهمنا لطبيعة الآخر. نظن أن ما يسعدنا سيسعدهم، وأن الحب حين يُقدَّم بتعب وذوق أو كما نرى ويناسبنا، لا بد أن يُقابل بالامتنان، بصرف النظر عن مضمونه بالنسبة للآخر.
الخبير الأمريكي “غاري تشابمان” ألّف كتابه الشهير لغات الحب الخمس ليشرح هذا الخلل العاطفي المتكرر. يقول إن الناس يستقبلون الحب بطرق مختلفة، لا توجد “طريقة واحدة” للحب تُرضي الجميع.
هذا التفاوت العاطفي هو ما وصفه الدكتور غاري تشابمان في كتابه، حين قال:
“الناس لا يتحدثون نفس لغة الحب. ما يعني شيئًا عظيمًا لأحدهم، قد لا يعني شيئًا للآخر.”
الخطأ الشائع، كما يقول تشابمان، هو أننا نُعبر عن الحب بلغتنا نحن، لا بلغة الآخر.
الزوجة كانت تعبّر عن حبها بإعداد “أجواء” فخمة وغداء شهي بلغتها المفضلة: العناية بالتفاصيل والخدمة.
لكن الزوج كان يريد: مكرونة.
ليس لأنه لا يقدّر الأرز، بل لأنه كان ينتظر تلبية رغبته الصغيرة، بلغته.
فثمة من يشعر بالمحبّة حين يسمع كلمات الإعجاب، وآخرون لا يفهمون الحب إلا في لمسة، أو خدمة تُؤدى، أو هدية تُهدى، أو وقت يُمنح بصفاء.
تقول الاستشارية بيرني براون:
“أكبر فخ في العلاقات هو افتراض أن الآخر يرى العالم كما نراه، ويشعر كما نشعر، ويُحب كما نحب.”
وتقول المستشارة النفسية إستير بيرِل: “الناس لا يبتعدون لأنهم لم يُحَبوا، بل لأنهم لم يُشعروا أنهم محبوبون بطريقة يفهمونها.”
ما يحدث في كثير من البيوت والصداقات هو شكل من التواصُل العاطفي المكسور، لا بسبب قسوة أو برود، بل لأننا نحب كثيرًا؛ لكننا نقدم هذا الحب بطريقتنا وبما نراه نحن مهم ليس بطريقة الطرف الآخر؛ فلا يصل أو لا يُقدر.
وتتفاقم الهوة حين يظن المانح أن عدم الامتنان هو إنكار، بينما هو في الحقيقة عدم استقبال فالزوج الذي قال: “أريد مكرونة”، لم يُنكر جهد زوجته، بل أراد أن يُحَبّ بلغته، لا بلغتها.
لذا فإن علاج هذا الخلل يبدأ من الاعتراف بأن الحب ليس مجرد شعور، بل مهارة تواصل، تحتاج إلى إصغاء، وسؤال، ومرونة.
نحتاج أن نسأل من نحب: “كيف تفهم الحب؟ وكيف تريده؟”
وأن نلاحظ دون أن نفرض، ونُجرب دون أن نتمسك، ونتعلم لغتهم كما لو كنا نتعلم لغة غريبة، لأننا نريد أن نُسمِعهم قلوبنا بلسانٍ يفهمونه.
حين نُحب، علينا أن نسأل: “كيف يحب أن يُحب؟” لا “ما الذي يسعدني أن أقدمه؟”
فالحب ليس عرضًا فنيًا نؤديه بإتقان، بل هو استجابة حنونة لرغبة الآخر.
والكرم العاطفي لا يُقاس بكمية الحب، بل بمدى دقته في الوصول.
فهل نحن مُستعدّون لنترجم حبنا… أم نصرّ على أن يُحبونا بلغتنا فقط؟
“أحسن الحب… أن يُفهم.”
فهل تُفهم لغتك؟ وهل تَفهم لغة من تحب؟
والأهم هل نحبهم حقًا، أم نحب شعورنا بأننا نحب؟




يا ثريا…
كتبتِ فلامسْتِ، وسكبتِ فأنرتِ، وكأنّ الكلمات خرجت من قلبٍ يفهم وجع التفاصيل الصغيرة التي لا تُقال.
قصة “المكرونة” ليست عن الأكل، بل عن الجوع العاطفي حين لا تُفهم لغتنا، عن الحب حين يُقدّم بجهد عظيم لكنه لا يصيب المكان الذي ينتظره الطرف الآخر. كم من مرة جلسنا أمام مائدة من اهتمامٍ لم نطلبه، واشتقنا لشيء بسيط هو كل ما نحتاجه؟!
مقالك يعلّمنا أن الحب ليس مجهودًا يُبذل بحد ذاته، بل هو إصغاء، وترجمة، ولغة مشتركة. أن نحب يعني أن نعرف، أن نسأل، لا أن نفترض.
ذكّرتينا أن العطاء لا يكفي وحده، إن لم يكن بلسانٍ يُفهم، وإن لم يُلبِّ نداءً خفيًا في قلب الآخر.
شكرًا لك… على هذا النص الذي لم يكن مجرد مقال، بل مرآة.
وأتمنى أن نحب ونُحب بوعي، لا بنيّة فقط، بل بفهمٍ أيضًا.
ثُريا ماهذا الابداع و الربط المبهر ، فعلاً الحُب سلوكيات تظهر بالأفعال الصغيرة قبل الكبيرة، الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة لغة الحب العميق،و كما يقال -أحبك والاهتمام بخاطرك فرض- ممتنين و محبين لكِ ثُريا.