ما فلحنا عن قرب شلون بنفلح عن بعد!



بقلم | أبكر الطاهر سليمان

في حوار دار بيني وبين أحد الاصدقاء داخل إحدى مكاتب الخدمات الطلابية. يردد صديقي وبحنق شديد (لو ولدي يقول مثل هذا الكلامقدامي لأمسح فيه البلاط)!! (فئة من المجتمع هي الأخرى قد تكون بحاجة إلى هذا المسح)! قلتها رداً على صديقي محاولاً التخفيف من حدةغضبه. ذلك أنه وقبل إصدار قرار مسح البلاط من قِبل صديقي الغاضب بيوم، وفِي ذات المكتبة كان أحد طلاب المرحلة الابتدائية يردد متحدثاًإلى أخيه الأكبر عبارةً يتخذ منها ذريعة لتدني مستواه الدراسيما فلحنا عن قرب شلون بنفلح عن بعد“!

ما فلحنا عن قرب شلون بنفلح عن بعدربما كانت هذه العبارة الجوفاء شعار المرحلة ويا له من شعار!

بدءاً من مجموعات الواتساب المتخمة بالغث والسمين وانتهاءاً إلى بيوتنا التي تجمعنا بأطفال يتخذون من مربيهم مُثلاً أعلى لهم. نعيد ودونوعي منا تكرار مسرحية (مدرسة المشاغبين) المسرحية التي حصدت ملايين المشاهدات والتي قال عنها مؤلفها معبراً عن ندمه فيما بعدلوعاد بي الزمان لما تجرأت على نشرهانعيداها داخل تجمعاتنا بدافع الفكاهة وخفة الدم وأنها لفكاهة رخيصة وثقل دم ينم عن قصور فكريوعقم معرفي. وخصوصاً حين يتعلق الأمر بإستهداف صميم المنظومة التعليمية.

حسنا لنعود إلى الوراء قليلا ونضع الأمر على طاولة الفحص الفكري حيث بدأ هذا الخللوهذا بالضبط ما عنيتهحين كنا نناقش ذاتالموضوع في اليوم التالي؛ حيث قلت لصديقي: (هل ما قاله هذا الطفل فكرة أصيلة نابعة من رأسه الصغير أم هي نتاج (قانون السببوالنتيجة) من جراء تردد هذه الكلمة على ألسنة من حوله؟ هذه الألسنة التي لم يكتفي أصحابها بتوظفيها لما خلقت من أجله! هي ذاتها التيدفعت بالكاتب الارجنتيني إدواردوغاليانو إلى أن يصفها في إحدى قصصه قائلا:صعد رجل إلى السماء. وحين عاد وصف رحلته و روىكيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنة اللهب الصغيرة!”.

بالعودة إلى (قانون السبب والنتيجة) والذي ينص على أن أي حدث ظاهري ما هو إلا نتيجة لمجموعة من الأسباب الخفية المعروفة وغيرالمعروفة.

فهذا الطفل مثلاً لم يؤلف هذه العبارة تأليفاً، بل سمعها من والده! ففي اللحظة التي أطلق فيها تلك العبارة وأقول أطلق لان الكلمات هيالأخرى رصاصات لغوية تخلف ثقوباً دون صوت في الوعي الجمعي. توجهت انظار الجميع نحو والده الحاضر الذي اهتز كرسيه ليس منالغضب بالطبع؛ بل من نشوة الضحك التي كانت ردة فعله على خفة دم طفله!!

إننا حين نقف على هذا الإشكال معاً يتضح لنا أن الأمر المشترك بين المدرسة والشارع المهترئ أمام بيتك والذي لا ينفك يلتهم ما تبقى منفتات نقودك بسبب الرقع التي خلفتها مياه الأمطار وسوء إدارة المشاريعوهذا هو السبب الذي أعنيهالناتج عن قلة المسؤولية التي بدأتمع ذلك الطالب الذي كان يسمع دوماً بأن الواسطة فوق الجدارة وأن الشهادة أهم من المهارة والذي يسمع من نفس الأشخاص اليوممافلحتوا عن قرب شلون بتفلحون عن بعدفكيف لهذا الطالب الذي صار موظفا اليوم أن يستشعر حس المسؤولية والرقابة الذاتية حين يتولىمنصباً يحتاج إلى الجودة لا الترقيع!؟

كيف سيدرك بأن المناصب تكليف قبل أن تكون تشريف؟

وذلك ببساطة لان الطالب الذي يتنامى لديه حس المسؤولية اليوم هو نفسه الجندي الذي سيحمي حدود الوطنغداً، سيكون هو الشرطي الذييحفظ الأمن ويحمي الناس، هو المهندس الذي يبني هو القاضي الذي يحفظ حقوقك هو الطبيب الذي تأمنه على جسدكفكيف نحقق كلهذه النتائج ونحن حتى لم نبذل من الأسباب إلا ما يدفعنا إلى الضحك والتسلية، هذا فضلاً عن جهلنا أو تجاهلنا بالتحديات التي تواجهناعلى كافة الأصعدة اليوم! نردد وبسطحية وسذاجة (أنت بتزاكر من ورانا) ونتنمر على المجتهدين ونتهكم على العلم والعلماء. فهل يحق لنا أننتعجب بعد ذلك حين تغرق شوارعنا بأمطار لا تتجاوز الدقائق أو ترتفع نسب الطلاق أو تدمر الممتلكات العامة والخاصة أو ترتفع نسبالحوادث المرورية وتتكدس السجون بالمجرمين!

الحق أقول لكم نحن لسنا بمعزل عن هذه النتائج فقد نكون شاركنا في صنعهم دون وعي منا! فهم نتاج قلة المسؤولية فهم ابناءنا، اخواننا،اصدقاءنا الذين يقيمون بيننا، نحن من نعيد تشكيلهم بإستمرار بتصرفاتنا وكلماتنا. “فالإنسان ابن بيئتهكما يقول رائد علم الاجتماع ابنخلدون.

وهذا يتمثل أيضا في (تشتت المسؤولية) وهيمنة سلوك (الفرجة و الإحالة) الذي تتسم به المجتمعات المفتوحة اليوم والذي بيّنه  لاتانيهودارليمن خلال عدد من الدراسات في حقلعلم النفس الإجتماعيوالذي ينص على أنّ تقييمنا لخطورة حادثٍ ما يعتمد بدايةً على ماإذا كان هناك آخرون يشهدون الحادثة معنا؛ إذ أن وجود الآخرين يقلل من تقديرنا لخطورة الحادثة، ولا يهيئ الفرصة لأخذ زمام المبادرة،ويطلق على هذه الظاهرة ظاهرةالتجاهل الجمعيلأنّ وجود غير واحدٍ من الأشخاص حول الموقف يدفع باتجاه تفسير الموقف على أنّهموقف آمن ولا يسترعي النظر والذي يفضي إلى ظاهرة مهمة تحدث في هذه المرحلة؛ ظاهرةتشتت المسؤوليةفكما يرىلاتانيهأنّه كلمازاد عدد الشهود، ستقل احتمالية تقديم المساعدة، وذلك لبروز مصطلحالإحالة، فكل شخص يحيل سلوك المساعدة إلى الآخر، منتظراً ماذاسيفعله الآخرون، وهكذا حتى يذوب ويتلاشى سلوك المساعدة نهائياً فتحل الكارثة حينها.

نحن اليوم أمام تحدٍ كبير. العالم يسير بوتيرة متسارعة دون أن يعبأ بمن قدم الكسل على العمل و الهزل على الجد. وما رؤية 2030 إلامحاولة جادة للحاق بل حتى القفز إلى مصاف الدول.

اليوم نحن بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى التحول من أزمة الوعي إلى وعي الأزمة، الوعي الذي يسمح لنا بالتمييز بين (النقض) وهو الهدم وهذا ما يفعلونه أصحاب (هناك قصور في التعليم) وبين (النقد) وهو إظهار قيمة الشيء وتحليل جدواه.

فهل نحن بحاجة إلى اصدار قانون يجرّم كل فعل أو قول يمس المنظومة التعليمية بسوء؟

هل نحن بحاجة إلى استدعاء نظام المجتمعات المغلقة للحد من تشتت المسؤولية وهدم سلوك الفرجة والإحالة؟

التحديات التي نواجهها اليوم كافية فلا تخلقوا مزيداً من التحديات.